- ٤٩ - بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلَّا الظَّالِمُونَ
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا أَنْزَلْنَا الْكُتُبَ عَلَى مَنْ قَبْلَكَ يَا مُحَمَّدُ مِنَ الرُّسُلِ، كَذَلِكَ أنزلنا إليك هذا الكتاب، وقوله تعالى: {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أَيِ الَّذِينَ أخذوه فتلوه حق تلاوته، من أخبارهم العلماء الأذكياء كـ (عبد الله بن سلام) و (سلمان الفارسي) وأشباههما، وقوله تعالى: {وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} يَعْنِي الْعَرَبَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلَاّ الْكَافِرُونَ} أَيْ مَا يُكَذِّبُ بِهَا وَيَجْحَدُ حَقَّهَا إلاّ من يستر الحق بالباطل، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِنَ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بيمنك} أَيْ قَدْ لَبِثْتَ فِي قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ من قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَ بِهَذَا الْقُرْآنِ عُمُرًا لَا تَقْرَأُ كِتَابًا وَلَا تُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، بَلْ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ قَوْمِكَ وَغَيْرِهِمْ يَعْرِفُ أَنَّكَ رَجُلٌ أُمِّيٌّ لَا تَقْرَأُ وَلَا تَكْتُبُ، وَهَكَذَا صِفَتُهُ في الكتب المتقدمة، كما قال تعالى: {والذين يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر} الآية، وَهَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دائماً إلى يوم الدين لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ وَلَا يَخُطُّ سَطْرًا وَلَا حَرْفًا بِيَدِهِ، بَلْ كَانَ لَهُ كُتَّابٌ يَكْتُبُونَ بين يده الوحي والرسائل إلى الأقاليم، وَمَا أَوْرَدَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يمت صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَعَلَّمَ الْكِتَابَةَ فَضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو} أَيْ تَقْرَأُ {مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ} لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ {وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} تَأْكِيدٌ أَيْضًا وَخَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ}.
وقوله تعالى: {إِذاً لَاّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} أَيْ لَوْ كُنْتَ تُحْسِنُهَا لَارْتَابَ بَعْضُ الْجَهَلَةِ مِنَ النَّاسِ، فَيَقُولُ: إِنَّمَا تَعَلَّمَ هَذَا مِنْ كُتُبٍ قَبْلَهُ مَأْثُورَةٍ عَنِ الأنبياء، وقد قَالُوا ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ أُمِّيٌّ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ والأرض} الآية، وقال ههنا {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ آيَاتٌ بَيِّنَةٌ واضحة في الدلالة على الحق، يَحْفَظُهُ الْعُلَمَاءُ، يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِفْظًا وَتِلَاوَةً وَتَفْسِيرًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مدكر} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِّنْ نَّبِيٍّ إِلَاّ وَقَدْ أُعطي مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا»، وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنِّي مُبْتَلِيكَ وَمُبْتَلٍ بِكَ، ومنزلٌ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا ويقظاناً}، أي لِأَنَّهُ مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ، مُيَسَّرٌ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، مُهَيْمِنٌ عَلَى الْقُلُوبِ، مُعْجِزٌ لَفْظًا وَمَعْنَى، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي صِفَةِ هَذِهِ الأمة {أناجيلهم في صدورهم)، وقوله تعالى: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلَاّ الظَّالِمُونَ} أَيْ مَا يُكَذِّبُ بِهَا وَيَبْخَسُ حَقَّهَا وَيَرُدُّهَا {إِلَاّ الظَّالِمُونَ} أَيِ الْمُعْتَدُونَ الْمُكَابِرُونَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَيَحِيدُونَ عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم}.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute