للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

بِهَا مَعَهُمْ مُوَلِّيَةٌ وَجْهِهَا إِلَى الْحَائِطِ فَأَطَالُوا الْحَدِيثَ، فَشَقُّوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ أَشَدَّ النَّاسِ حَيَاءً، وَلَوْ أُعْلِمُوا كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عَزِيزًا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حُجَرِهِ وَعَلَى نِسَائِهِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَدْ جَاءَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ ثَقِلُوا عَلَيْهِ ابْتَدَرُوا الْبَابَ، فَخَرَجُوا، وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَرْخَى السِّتْرَ وَدَخَلَ الْبَيْتَ وَأَنَا فِي الْحُجْرَةِ فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ يَسِيرًا وَأَنْزَلَ الله عليه القرآن فخرج وهو يتلو هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي} الآيات، قَالَ أَنَسٌ: فَقَرَأَهُنَّ عليَّ قَبْلَ النَّاسِ فَأَنَا أحدث الناس بهن عهداً (رواه ابن أبي حاتم واللفظ له وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي بنحوه).

فقوله تعالى: {لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ} حَظَرَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَدْخُلُوا مَنَازِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، كَمَا كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَصْنَعُونَ فِي بُيُوتِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَابْتِدَاءِ الإسلام، حتى غار الله لهذه الأمة فأخبرهم بِذَلِكَ، وَذَلِكَ مِنْ إِكْرَامِهِ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ، ثم استثنى من ذلك فقال تعالى: {إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} أَيْ غَيْرَ مُتَحَيِّنِينَ نُضْجَهُ وَاسْتِوَاءَهُ، أَيْ لَا ترقبوا الطعام إذا طبخ حَتَّى إِذَا قَارَبَ الِاسْتِوَاءَ تَعَرَّضْتُمْ لِلدُّخُولِ، فَإِنَّ هذا مما يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَيَذُمُّهُ؛ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التطفيل وهو الذي تسميه العرب الضيفن (صنّف الخطيب البغدادي كِتَابًا فِي ذَمِّ الطُّفَيْلِيِّينَ وَذَكَرَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ أَشْيَاءَ يَطُولُ إِيرَادُهَا)، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا}، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُجِبْ عُرْسًا كَانَ أو غيره» (أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن عمر)، وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ، فَإِذَا فَرَغْتُمْ مِنَ الَّذِي دُعِيتُمْ إِلَيْهِ فَخَفِّفُوا عَنْ أَهْلِ الْمَنْزِلِ وَانْتَشَرُوا فِي الْأَرْضِ»، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} أَيْ كَمَا وَقَعَ لِأُولَئِكَ النفر الثلاثة الذين استرسل بهم الحديث، {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ} وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ دُخُولَكُمْ مَنْزِلَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كان يشق عليه ويتأذى به، ولكن كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَنْهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، مِنْ شِدَّةِ حَيَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عليه النهي عن ذلك، ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} أَيْ وَلِهَذَا نَهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ وَزَجَرَكُمْ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} أَيْ وَكَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنِ الدُّخُولِ عَلَيْهِنَّ كَذَلِكَ لَا تَنْظُرُوا إِلَيْهِنَّ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِكُمْ حَاجَةٌ يُرِيدُ تَنَاوُلَهَا مِنْهُنَّ فَلَا يَنْظُرْ إِلَيْهِنَّ، وَلَا يَسْأَلْهُنَّ حَاجَةً إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حجاب. {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} أَيْ هَذَا الَّذِي أَمَرَتْكُمْ بِهِ وَشَرَعْتُهُ لَكُمْ مِنَ الْحِجَابِ أَطْهَرُ وأطيب، وقوله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً} قال ابن عباس: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ همَّ أَنْ يَتَزَوَّجَ بَعْضَ نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعده، قَالَ رَجُلٌ لِسُفْيَانَ: أَهِيَ عَائِشَةُ؟ قَالَ: قَدْ ذكروا ذلك، وقال السُّدِّيِّ: أَنَّ الَّذِي عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ (طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَتَّى نَزَلَ التَّنْبِيهُ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا أَجْمَعَ العلماء قاطبة على من أن تُوُفِّيَ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَزْوَاجِهِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ تزوجها مِنْ بَعْدِهِ، لِأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وأمهات المؤمنين كما تقدم، وَقَدْ عَظَّمَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَلِكَ وشدَّد فِيهِ وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ الله عَظِيماً}، ثم قال تعالى: {إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}

<<  <  ج: ص:  >  >>