موتهم، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ اخْتِيَارُ الْبَغَوِيِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ آثَارُ خُطَاهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ أو المعصية، قال مُجَاهِدٍ: {مَا قَدَّمُواْ} أَعْمَالُهُمْ {وَآثَارَهُمْ} قَالَ: خُطَاهُمْ بأرجلهم (وهو قول الحسن وقتادة). وقال قتادة: لو كان الله عزَّ وجلَّ مُغْفِلًا شَيْئًا مِنْ شَأْنِكَ يَا ابْنَ آدَمَ أغفل ما تغفل الرِّيَاحُ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ، وَلَكِنْ أَحْصَى عَلَى ابْنِ آدَمَ أَثَرَهُ وَعَمَلَهُ كُلَّهُ، حَتَّى أَحْصَى هَذَا الْأَثَرَ فِيمَا هُوَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ تعالى أو مَعْصِيَتِهِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَكْتُبَ أَثَرَهُ في طاعة الله تعالى فَلْيَفْعَلْ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ.
الحديث الأول: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قَالَ: خَلَتِ الْبِقَاعُ حَوْلَ الْمَسْجِدِ، فَأَرَادَ بَنُو سَلَمَةَ أَنْ يَنْتَقِلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لَهُمْ: «إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ»، قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قد أردنا ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: "يَا بَنِي سَلَمَةَ: دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ، دِيَارَكُمْ تكتب آثاركم" (أخرجه أحمد والإمام مسلم). الحديث الثاني: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَتْ بَنُو سَلَمَةَ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ فَأَرَادُوا أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلَى قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فَنَزَلَتْ: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ} فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ آثَارَكُمْ تُكْتَبُ» فَلَمْ ينتقلوا (أخرجه ابن أبي حاتم والترمذي وقال الترمذي: حسن غريب). وروى الحافظ البزار، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ بَنِي سَلَمَةَ شَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعْدَ مَنَازِلِهِمْ مِنَ الْمَسْجِدِ فَنَزَلَتْ: {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ} فأقاموا في مكانهم. الحديث الثالث: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَتِ الْأَنْصَارُ بَعِيدَةً مَنَازِلُهُمْ مِنَ الْمَسْجِدِ فَأَرَادُوا أَنْ يَتَحَوَّلُوا إِلَى الْمَسْجِدِ فَنَزَلَتْ {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ} فثبتوا في منازلهم (أخرجه الطبراني وهو حديث موقوف). الحديث الرابع: عن عبد الله بن عمرو رضي لله عنهما قَالَ: تُوُفِّيَ رَجُلٌ بِالْمَدِينَةِ فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: «يَا لَيْتَهُ مَاتَ فِي غَيْرِ مَوْلِدِهِ» فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ: وَلِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا تُوُفِّيَ فِي غَيْرِ مَوْلِدِهِ قِيسَ لَهُ مِنْ مَوْلِدِهِ إِلَى مُنْقَطِعِ أَثَرِهِ فِي الْجَنَّةِ» (أخرجه الإمام أحمد والنسائي). وروى ابن جرير عن ثابت قال: مشيت مع أنَس رضي الله عنه فَأَسْرَعْتُ الْمَشْيَ فَأَخَذَ بِيَدِي فَمَشَيْنَا رُوَيْدًا، فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ قَالَ أنَس: مَشَيْتُ مَعَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَأَسْرَعْتُ الْمَشْيَ، فَقَالَ: يَا أنَس أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ الْآثَارَ تُكْتَبُ؟ وَهَذَا الْقَوْلُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ، بَلْ فِي هَذَا تَنْبِيهٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ بِطَرِيقِ الأَوْلى وَالْأَحْرَى، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآثَارُ تُكْتَبُ فَلَأَنْ تُكْتَبَ تِلْكَ الَّتِي فِيهَا قُدْوَةٌ بِهِمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَاللَّهُ أعلم. وقوله تَعَالَى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ} أَيْ وجميع الْكَائِنَاتِ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابٍ مَسْطُورٍ مَضْبُوطٍ فِي لوح محفوظ، {والإمام المبين} ههنا هو أم الكتاب، قاله مجاهد وقتادة وكذا في قوله تعالى: {يوم ندعو كل ناس بِإِمَامِهِمْ} أَيْ بِكِتَابِ أَعْمَالِهِمِ الشَّاهِدِ عَلَيْهِمْ بِمَا عَمِلُوهُ من خير أو شر كما قال عزَّ وجلَّ: {وَوُضِعَ الكتاب وَجِيءَ بالنبيين والشهداء}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ، ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أحداً}.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute