للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

يُنزَفُونَ} كما قال تعالى: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا ينزفون} نزّه الله سبحانه وتعالى خمر الجنة عَنِ الْآفَاتِ الَّتِي فِي خَمْرِ الدُّنْيَا، مِنْ صُدَاعِ الرَّأْسِ، وَوَجَعِ الْبَطْنِ، وَهُوَ (الْغَوْلُ) وَذَهَابِهَا بالعقل جملة، فقال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} أَيْ بِخَمْرٍ مِنْ أَنْهَارٍ جَارِيَةٍ، لَا يَخَافُونَ انْقِطَاعَهَا وَلَا فراغها، قال زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: خَمْرٌ جَارِيَةٌ بَيْضَاءُ، أَيْ لَوْنُهَا مُشْرِقٌ حَسَنٌ بَهِيٌّ، لَا كَخَمْرِ الدُّنْيَا فِي مَنْظَرِهَا الْبَشِعِ الرَّدِيءِ، مِنْ حُمْرَةٍ أَوْ سَوَادٍ أَوِ اصْفِرَارٍ أَوْ كُدُورَةٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُنَفِّرُ الطَّبْعَ السَّلِيمَ، وَقَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: {لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} أَيْ طَعْمُهَا طَيِّبٌ كَلَوْنِهَا، وَطِيبُ الطَّعْمِ دَلِيلٌ عَلَى طِيبِ الرِّيحِ، بِخِلَافِ خمر الدنيا في جميع ذلك، وقوله تعالى: {لا فِيهَا غَوْلٌ} يعني وجع البطن (قاله ابن عباس ومجاهد وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ)، كَمَا تَفْعَلُهُ خَمْرُ الدُّنْيَا، وقيل: المراد بالغول ههنا صداع الرأس، وروي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ صُدَاعُ الرأس ووجع البطن؛ وقال السُّدِّيِّ: لَا تَغْتَالُ عُقُولَهُمْ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

فَمَا زَالَتِ الْكَأْسُ تَغْتَالُنَا * وَتَذْهَبُ بِالْأَوَّلِ الْأَوَّلِ.

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَا مَكْرُوهَ فِيهَا وَلَا أَذًى، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ: إِنَّهُ وَجَعُ البطن، وقوله تعالى: {وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تذهب عقولهم (وكذا قال ابن عباس والحسن وعطاء والسدي)، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي الْخَمْرِ أَرْبَعُ خِصَالٍ: (السُّكْرُ، والصداع، والقيء، والبول)، فذكر الله تعالى خمر الجنة، فنزّهها عن هذه الخصال، وقوله تعالى: {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} أَيْ عَفِيفَاتٌ لَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ، كَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ومجاهد، وقوله تبارك وتعالى: {عِينٌ} أَيْ حِسَانُ الْأَعْيُنِ، وَقِيلَ ضِخَامُ الْأَعْيُنِ، وَهِيَ النَّجْلَاءُ الْعَيْنَاءُ، فَوَصَفَ عُيُونَهُنَّ بِالْحُسْنِ وَالْعِفَّةِ، كقول زليخا في يوسف عليه السلام {ولقد روادته عَن نَّفْسِهِ فاستعصم} أَيْ هُوَ مَعَ هَذَا الْجَمَالِ عَفِيفٌ تَقِيٌّ نقي، وهكذا الحور العين {خَيْرَاتٌ حسان}، ولهذا قال عزَّ وجلَّ: {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف عِينٌ}. وقوله جلَّ جلاله: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} وَصَفَهُنَّ بِتَرَافَةِ الْأَبْدَانِ بِأَحْسَنِ الألوان، قال ابن عباس {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} يقول: اللؤلؤ المكنون، وأنشد قول الشاعر:

وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوا * ص مِيزَتْ مِنْ جَوْهَرٍ مَكْنُونِ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مكنون} يعين مصون لم تمسه الأيدي، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} يعني بطن البيض، وَقَالَ السُّدِّيُّ {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} يَقُولُ بَيَاضُ الْبَيْضِ حِينَ يُنْزَعُ قِشْرُهُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ لِقَوْلِهِ {مَّكْنُونٌ} قَالَ: وَالْقِشْرَةُ الْعُلْيَا يَمَسُّهَا جَنَاحُ الطير والعش، وتنالها الأيدي بخلاف داخلها، وفي الحديث عَنْ أنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إِذَا بُعِثُوا، وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا وَفَدُوا، وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا حَزِنُوا، وَأَنَا شَفِيعُهُمْ إِذَا حُبِسُوا، لِوَاءُ الْحَمْدِ يومئذٍ بِيَدِي، وأنا أكرم ولد آدم على الله عزَّ وجلَّ وَلَا فَخْرَ، يَطُوفُ عَلِيَّ أَلْفُ خَادِمٍ كَأَنَّهُنَّ الْبَيْضُ الْمَكْنُونُ - أَوِ اللُّؤْلُؤُ الْمَكْنُونُ -» (أخرجه ابن أبي حاتم وروى بعضه الترمذي).

<<  <  ج: ص:  >  >>