والكاذبة مصدر كالعاقبة والعافية، وقوله تعالى: {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} أي تخفض أَقْوَامًا إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ إِلَى الْجَحِيمِ، وَإِنْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا أَعِزَّاءَ، وَتَرْفَعُ آخَرِينَ إِلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ إِلَى النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَإِنْ كَانُوا في الدنيا وضعاء، وعن ابن عباس: {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} تخفض أقواماً وترفع آخرين، وقال عثمان بن سراقة: السَّاعَةُ خَفَضَتْ أَعْدَاءَ اللَّهِ إِلَى النَّارِ، وَرَفَعَتْ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: تَخْفِضُ رِجَالًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُرْتَفِعِينَ، وَتَرْفَعُ رِجَالًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مَخْفُوضِينَ، وَقَالَ السدي: خفضت المتكبرين ورفعت المتواضعين، وقوله تعالى: {إِذاً رُجَّتِ الْأَرْضُ رجَّاً} أَيْ حُرِّكَتْ تَحْرِيكًا فَاهْتَزَّتْ وَاضْطَرَبَتْ بِطُولِهَا وَعَرْضِهَا، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عباس ومجاهد {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رجَّاً} أَيْ زُلْزِلَتْ زِلْزَالًا، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَس: تُرَجُّ بِمَا فِيهَا كرج الغربال بما فيه، كقوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زلزالها}، وقال تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ}، وقوله تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً} أَيْ فُتِّتَتْ فَتًّا، قَالَهُ ابن عباس ومجاهد، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: صَارَتِ الْجِبَالُ كَمَا قَالَ الله تعالى {كثيباً مهيلاً}، وقوله تعالى: {فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً} عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَبَاءً مُنْبَثًّا كَرَهَجِ الْغُبَارِ يَسْطَعُ ثُمَّ يَذْهَبُ فَلَا يَبْقَى منه شيء، وقال ابن عباس: الهباء الذي يطير من النار إذا اضرمت يَطِيرُ مِنْهُ الشَّرَرُ، فَإِذَا وَقَعَ لَمْ يَكُنْ شيئاً، وقال عكرمة: المنبث الذي قد ذَرَّتْهُ الرِّيحُ وَبَثَّتْهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: {هَبَاءً مُّنبَثّاً} كيابس الشَّجَرِ الَّذِي تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَأَخَوَاتِهَا الدَّالَةِ عَلَى زَوَالِ الْجِبَالِ عَنْ أَمَاكِنِهَا يَوْمَ القيامة، وذهابها وَنَسْفِهَا أَيْ قَلْعِهَا وَصَيْرُورَتِهَا كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ.
وَقَوْلُهُ تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً} أَيْ يَنْقَسِمُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: قَوْمٌ عَنْ يَمِينِ العرش، وهم الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، وَهُمْ جُمْهُورُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَآخَرُونَ عَنْ يَسَارِ العرش، وهم الذين يؤتون كتبهم بشمالهم وَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ عَامَّةُ أَهْلِ النار، وطائفة سابقون بين يديه عزَّ وجلَّ وَهُمْ أحظى وأقرب من أصحاب اليمين، فِيهِمُ الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ، وَهُمْ أَقَلُّ عدداً من أصحاب اليمين، لهذا قال تعالى: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}، وَهَكَذَا قَسَّمَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ فِي آخِرِ السُّورَةِ وَقْتَ احْتِضَارِهِمْ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله} الآية وَذَلِكَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ كما تقدم بيانه، قال ابن عباس {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً} قَالَ: هِيَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْمَلَائِكَةِ {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} الآية. وَقَالَ يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً} قَالَ: أَصْنَافًا ثَلَاثَةً، وقال مجاهد: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً} يَعْنِي فِرَقًا ثَلَاثَةً، وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: أفواجاً ثَلَاثَةً، اثْنَانِ فِي الْجَنَّةِ وَوَاحِدٌ فِي النَّارِ، قال مُجَاهِدٍ: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} هُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُمْ أَهْلُ عِلِّيِّينَ، وَقَالَ ابْنُ سيرين {والسابقون السابقون} الذين صلوا إلى القبلتين، وَقَالَ الْحَسَنُ وقَتَادَةُ: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} أَيْ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سَوْدَةَ، أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} ثُمَّ قَالَ: أَوَّلُهُمْ رَوَاحًا إِلَى الْمَسْجِدِ، وَأَوَّلُهُمْ خُرُوجًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّابِقِينَ هُمُ الْمُبَادِرُونَ إِلَى فِعْلِ الْخَيِّرَاتِ، كَمَا أُمِرُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض}، وقال تَعَالَى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute