للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ}؟ أَيْ: وَأَيُّ شَيْءٍ يَمْنَعُكُمْ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالرَّسُولُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ يَدْعُوكُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَيُبَيِّنُ لَكُمُ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَكُمْ بِهِ، وَقَدْ رَوَيْنَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمًا لِأَصْحَابِهِ: «أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَعْجَبُ إِلَيْكُمْ إِيمَانًا؟» قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ، قَالَ: «وَمَا لَهُم لَا يُؤْمِنُونَ وَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ؟» قَالُوا: فَالْأَنْبِيَاءُ، قَالَ: «وَمَا لَهُم لَا يُؤْمِنُونَ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ؟» قَالُوا: فَنَحْنُ، قَالَ: «وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ وَلَكِنْ أَعْجَبُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا قَوْمٌ يَجِيئُونَ بَعْدَكُمْ يَجِدُونَ صُحُفًا يُؤْمِنُونَ بما فيها» (أخرجه البخاري في كتاب الإيمان). وقوله تعالى: {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} وَيَعْنِي بِذَلِكَ بَيْعَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وقوله تَعَالَى: {هُوَ الذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أَيْ حُجَجًا وَاضِحَاتٍ وَدَلَائِلَ بَاهِرَاتٍ وَبَرَاهِينَ قَاطِعَاتٍ، {لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أَيْ مِنْ ظلمات الجهل والكفر، إلى نور الهدى والإيمان، {وَإِنَّ الله بِكُمْ لرؤوف رَّحِيمٌ} أَيْ فِي إِنْزَالِهِ الْكُتُبَ وَإِرْسَالِهِ الرُّسُلَ لهداية الناس، وَلَمَّا أَمَرَهُمْ أَوَّلًا بِالْإِيمَانِ وَالْإِنْفَاقِ، ثُمَّ حَثَّهُمْ على الأيمان، حَثَّهُمْ أَيْضًا عَلَى الْإِنْفَاقِ، فَقَالَ: {وَمَا لَكُمْ أَلَاّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؟ أَيْ أَنْفَقُوا وَلَا تَخْشَوْا فَقْرًا وَإِقْلَالًا، فَإِنَّ الَّذِي أَنْفَقْتُمْ فِي سَبِيلِهِ هُوَ مالك السماوات والأرض، وَهُوَ الْقَائِلُ: {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}، {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ}، فمن توكل على الله أنفق وعلم أن الله سيخلفه عليه، وقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} أَيْ لَا يَسْتَوِي هَذَا وَمَنْ لم يفعل كفعله، وذلك أنه قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ كَانَ الْحَالُ شَدِيدًا، فَلَمْ يَكُنْ يُؤْمِنُ حِينَئِذٍ إِلَّا الصِّدِّيقُونَ، وَأَمَّا بَعْدَ الْفَتْحِ فَإِنَّهُ ظَهَرَ الْإِسْلَامُ ظُهُورًا عَظِيمًا، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}، وَالْجُمْهُورُ على أن المراد بالفتح ههنا (فتح مكة)، وعن الشعبي: أن المراد (صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ).

وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا قال الإمام أحمد، عَنْ أنَس قَالَ: كَانَ بَيْنَ (خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ) وَبَيْنَ (عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) كَلَامٌ، فَقَالَ خَالِدٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: تَسْتَطِيلُونَ عَلَيْنَا بِأَيَّامٍ سَبَقْتُمُونَا بِهَا، فَبَلَغَنَا أَنَّ ذَلِكَ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «دَعُوا لِي أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقْتُمْ مِثْلَ أحُد أَوْ مِثْلَ الْجِبَالِ ذَهَبًا مَا بَلَغْتُمْ أَعْمَالَهُمْ». وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِسْلَامَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ كان بين صلح الحُدَيبية وفتح مكة. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخِدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمٌ تُحَقِّرُونَ أَعْمَالَكُمْ مَعَ أَعْمَالِهِمْ»، قُلْنَا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُرَيْشٌ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنْ أَهْلُ الْيَمَنِ لِأَنَّهُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا»، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: «هُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، أَلَا إِنَّ الْإِيمَانَ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةَ يَمَانِيَةٌ»، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُمْ خَيْرٌ مِنَّا؟ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ جَبَلٌ مِنْ ذَهَبٍ يُنْفِقُهُ مَا أَدَّى مُدَّ أَحَدِكُمْ وَلَا نَصِيفَهُ»، ثُمَّ جَمَعَ أَصَابِعَهُ وَمَدَّ خِنْصَرَهُ وَقَالَ: «أَلَا إِنَّ هَذَا فَضْلُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً

مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ، وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خبير}» (أخرجه ابن جرير). وقوله تعالى: {وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} يَعْنِي الْمُنْفِقِينَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَبَعْدَهُ كُلُّهُمْ لَهُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>