وَالْمَنْشَرِ، وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ ذَهَبُوا إِلَى (خَيْبَرَ) وَكَانَ قَدْ أَنْزَلَهُمْ مِنْهَا عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَّا حَمَلَتْ إِبِلُهُمْ، فَكَانُوا يُخَرِّبُونَ مَا فِي بُيُوتِهِمْ مِنَ الْمَنْقُولَاتِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تُحْمَلَ مَعَهُمْ، ولهذا قال تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} أَيْ تَفَكَّرُوا فِي عَاقِبَةِ مَنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ وَخَالَفَ رَسُولَهُ، وَكَذَّبَ كِتَابَهُ، كَيْفَ يَحِلُّ بِهِ مِنْ بَأْسِهِ الْمُخْزِي لَهُ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدَّخِرُهُ لَهُ فِي الآخرة من العذاب الأليم، روى أبو داود، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ كَتَبُوا إِلَى (ابن أبي) ومن معه يعبد الأوثان وَالْخَزْرَجِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذٍ بالمدينة قبل رجعة بدر إنكم أدنيتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لنقاتلنه أو لنخرجنكم، أَوْ لَنَسِيرَنَّ إِلَيْكُمْ بِأَجْمَعِنَا حَتَّى نَقْتُلَ مُقَاتِلَتَكُمْ ونسبي نِسَاءَكُمْ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ) وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ أجمعوا لِقِتَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَهُمْ فَقَالَ: «لَقَدْ بَلَغَ وَعِيدُ قُرَيْشٍ مِنْكُمُ الْمَبَالِغَ، مَا كَانَتْ تَكِيدُكُمْ بِأَكْثَرَ مِمَّا تُرِيدُ أن تكيدوا به أنفسكم، يريدون أن يقاتلوا أَبْنَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ»، فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفَرَّقُوا، فَبَلَغَ ذَلِكَ كَفَّارَ قُرَيْشٍ، فَكَتَبَتْ كَفَّارُ قُرَيْشٍ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ إِلَى الْيَهُودِ، إِنَّكُمْ أَهْلُ الْحَلْقَةِ وَالْحُصُونِ وَإِنَّكُمْ لَتُقَاتِلُّنَ مَعَ صَاحِبِنَا أَوْ لَنَفْعَلَنَّ كَذَا وكذا، ولايحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء، وهو الْخَلَاخِيلُ، فَلَمَّا بَلَغَ كِتَابُهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أيقنت بَنُو النَّضِيرِ بِالْغَدْرِ، فَأَرْسَلُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْرُجْ إِلَيْنَا فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ لِيَخْرُجَ مِنَّا ثَلَاثُونَ حَبْرًا، حتى نلتقي بمكان النصف، وليسمعوا مِنْكَ، فَإِنْ صَدَّقُوكَ وَآمَنُوا بِكَ آمَنَّا بِكَ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ غَدَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالكتائب فحصرهم فقال لهم: «إنكم والله لا تؤمنون عِنْدِي إِلَّا بِعَهْدٍ تُعَاهِدُونِي عَلَيْهِ»، فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُ عَهْدًا، فَقَاتَلَهُمْ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ غَدَا من الْغَدُ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ بِالْكَتَائِبِ، وَتَرَكَ بَنِي النَّضِيرِ وَدَعَاهُمْ إِلَى أَنْ يُعَاهِدُوهُ فَعَاهَدُوهُ، فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ، وَغَدَا إِلَى بَنِي النَّضِيرِ بِالْكَتَائِبِ فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى الْجَلَاءِ فَجَلَتْ بَنُو النَّضِيرِ، وَاحْتَمَلُوا مَا أَقَلَّتِ الْإِبِلُ مِنْ أَمْتِعَتِهِمْ وَأَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ وَخَشَبِهَا، وَكَانَ نَخْلُ بَنِي النَّضِيرِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً أَعْطَاهُ الله إياها وخصه بِهَا، فقال تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خيل ولا ركاب} نقول بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَأَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَهَا لِلْمُهَاجِرِينَ قَسَّمَهَا بَيْنَهُمْ، وَقَسَّمَ مِنْهَا لِرَجُلَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَا ذَوَيْ حَاجَةٍ وَلَمْ يُقَسَّمْ مِنَ الْأَنْصَارِ غَيْرُهُمَا، وَبَقِيَ مِنْهَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي في أيدي بني فاطمة.
وقوله تعالى: {ما طننتم أَن يَخْرُجُواْ} أي في مدة حصاركم كهم وَكَانَتْ سِتَّةَ أَيَّامٍ مَعَ شِدَّةِ حُصُونِهِمْ وَمَنَعَتِهَا، ولهذا قال تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ} أَيْ جَاءَهُمْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ في بال كما قال تعالى في الآية الأُخْرَى {وَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لا يشعرون}، وقوله تعالى: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} أَيِ الْخَوْفَ وَالْهَلَعَ وَالْجَزَعَ، وَكَيْفَ لَا يحصِّلُ لَهُمْ ذَلِكَ وَقَدْ حَاصَرَهُمُ الَّذِي نُصِرَ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين} هو نقض ما استحسنوه من
سقوفهم وأبوابهم وحملها على الإبل، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَاتِلُهُمْ، فَإِذَا ظَهَرَ عَلَى دَرْبٍ أَوْ دَارٍ هُدِمَ حِيطَانُهَا لِيَتَّسِعَ الْمَكَانُ لِلْقِتَالِ، وَكَانَ الْيَهُودُ إِذَا عَلَّوْا مَكَانًا أَوْ غَلَبُوا عَلَى دَرْبٍ أَوْ دَارٍ نَقَبُوا مِنْ أَدْبَارِهَا، ثُمَّ حَصَّنُوهَا وَدَرَّبُوهَا، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}، وَقَوْلُهُ: {وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدنيا} أي لولا أن كتب
عَلَيْهِمْ هَذَا الْجَلَاءَ وَهُوَ النَّفْيُ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، لَكَانَ لَهُمْ عِنْدَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute