ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، وقال الحسن البصري: إِذَا كَانَتِ الْجِبَالُ الصُّمُّ لَوْ سَمِعَتْ كَلَامَ اللَّهِ وَفَهِمَتْهُ لَخَشَعَتْ وَتَصَدَّعَتْ مَنْ خَشْيَتِهِ، فَكَيْفَ بِكُمْ وَقَدْ سَمِعْتُمْ وَفَهِمْتُمْ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} الآية، وقد تقدم أن المعنى ذلك أي لكان هذا القرآن، ثم قال تعالى: {هُوَ الله لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَلَا رَبَّ غَيْرُهُ وَلَا إِلَهَ لِلْوُجُودِ سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ فَبَاطِلٌ، وَأَنَّهُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَيْ يَعْلَمُ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ الْمُشَاهِدَاتِ لَنَا وَالْغَائِبَاتِ عَنَّا، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ مِنْ جَلِيلٍ وَحَقِيرٍ وَصَغِيرٍ وكبير حتى الذر في الظلمات، وقوله تعالى: {هُوَ الرحمن الرحيم} المراد أَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ الشَّامِلَةِ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَهُوَ رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَحِيمُهُمَا، وَقَدْ قَالَ تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شيء}، وقال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} وقال تَعَالَى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ} أَيِ الْمَالِكُ لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا بِلَا مُمَانَعَةٍ وَلَا مُدَافَعَةٍ.
وقوله تعالى: {الْقُدُّوسُ} قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أَيِ الطَّاهِرُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: أَيِ الْمُبَارَكُ، وَقَالَ ابْنُ جريح: تُقَدِّسُهُ الْمَلَائِكَةُ الْكِرَامُ، {السَّلَامُ} أَيْ مِنْ جَمِيعِ العيوب والنقائص لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله، وقوله تعالى: {المؤمن} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ أَمَّنَ خَلْقَهُ مِنْ أَنْ يَظْلِمَهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَّنَ بِقَوْلِهِ إِنَّهُ حَقٌّ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: صَدَّقَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي إيمانهم به، وقوله تعالى: {الْمُهَيْمِنُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: أَيِ الشَّاهِدُ عَلَى خَلْقِهِ بِأَعْمَالِهِمْ، بِمَعْنَى هُوَ رَقِيبٌ عَلَيْهِمْ، كَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ}، وَقَوْلُهُ: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} الآية، وقوله تعالى: {الْعَزِيزُ} أَيِ الَّذِي قَدْ عَزَّ كُلَّ شَيْءٍ فَقَهَرَهُ، وَغَلَبَ الْأَشْيَاءَ فَلَا يُنَالُ جَنَابُهُ لِعِزَّتِهِ وعظمته وجبروته وكبريائه، ولهذا قال تعالى: {الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} أَيِ الَّذِي لَا تَلِيقُ الْجَبْرِيَّةُ إِلَّا لَهُ، وَلَا التَّكَبُّرُ إِلَّا لِعَظَمَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحِ: «الْعَظَمَةُ إِزَارِي وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا عَذَّبْتُهُ»، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْجَبَّارُ الَّذِي جَبَرَ خَلْقَهُ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الْجَبَّارُ الْمُصْلِحُ أُمور خَلْقِهِ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمُتَكَبِّرُ يَعْنِي عَنْ كُلِّ سُوءٍ، ثُمَّ قَالَ تعالى: {سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ}. وقوله تعالى: {هُوَ الله الخالق البارىء المصور} الخلق: التقدير، والبرء: التَّنْفِيذُ وَإِبْرَازُ مَا قَدَّرَهُ وَقَرَّرَهُ إِلَى الْوُجُودِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ قَدَّرَ شَيْئًا وَرَتَّبَهُ يَقْدِرُ عَلَى تَنْفِيذِهِ وَإِيجَادِهِ سِوَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ. قَالَ الشَّاعِرُ يَمْدَحُ آخَرَ:
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْضُ * الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي
أَيْ أَنْتَ تُنَفِّذُ مَا خَلَقْتَ، أَيْ قَدَّرْتَ بخلاف غيرك؛ فإنه لا يستطيع ما يريده فَالْخَلْقُ: التَّقْدِيرُ، وَالْفَرْيُ: التَّنْفِيذُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: قَدَّرَ الْجَلَّادُ ثُمَّ فَرَى، أَيْ قَطَعَ عَلَى مَا قَدَّرَهُ بِحَسَبِ مَا يُرِيدُهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} أَيِ الَّذِي إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً قَالَ لَهُ: كُن فَيَكُونُ، عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يريد، والصورة التي يختار، كقوله تعالى: {في أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ ركبك}، وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَوِّرُ أَيِ الَّذِي يُنَفِّذُ مَا يُرِيدُ إِيجَادَهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يُرِيدُهَا.
وَقَوْلُهُ تعالى: {لَّهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، ونذكر الحديث المروي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute