يقول تعالى للمشركين الذين عبدوا معه غَيْرَهُ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ نَصْرًا وَرِزْقًا مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِن دُونِ الرَّحْمَنِ}؟ أَيْ لَيْسَ لَكُمْ مَنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ، وَلَا نَاصِرَ لكم غيره، ولهذا قال تعالى: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَاّ فِي غُرُورٍ}. ثُمَّ قَالَ تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ}؟ أَيْ مَنْ هَذَا الَّذِي إِذَا قَطَعَ اللَّهُ عنكم رزقه يَرْزُقُكُمْ بَعْدَهُ؟ أَيْ لَا أَحَدَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ، ويخلق ويرزق إلا الله وحده لا شريك له، قال تعالى: {بَلْ لَّجُّواْ} أَيِ اسْتَمَرُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ وَإِفْكِهِمْ وضلالهم، {فِي عُتُوٍّ} أي في معاندة واستكبار {وَنُفُورٍ} على أدبارهم عن الحق، لَا يَسْمَعُونَ لَهُ وَلَا يَتَّبِعُونَهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}؟ وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَالْكَافِرُ مَثَلُهُ فِيمَا هُوَ فِيهِ كَمَثَلِ مَنْ يَمْشِي {مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ} أَيْ يَمْشِي مُنْحَنِيًا لَا مُسْتَوِيًا {عَلَى وَجْهَهُ} أَيْ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَسْلُكُ وَلَا كَيْفَ يَذْهَبُ، بَلْ تَائِهٌ حَائِرٌ ضَالٌّ، أَهَذَا أَهْدَى {أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً} أَيْ مُنْتَصِبَ الْقَامَةِ {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؟ أَيْ عَلَى طَرِيقٍ وَاضِحٍ بيّن، هَذَا مَثَلُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ يَكُونُونَ فِي الْآخِرَةِ، فَالْمُؤْمِنُ يُحْشَرُ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مستقيم، مفض بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ الْفَيْحَاءِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّهُ يُحْشَرُ يَمْشِي عَلَى وَجْهِهِ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ {فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم}. عن أنَس بن مالك قال، قيل: يارسول اللَّهِ كَيْفَ يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى وُجُوهِهِمْ؟ فَقَالَ: «أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ قَادِرًا عَلَى أن يمشيهم على وجوههم»؟ (الحديث أخرجه أحمد وأصله في الصحيحين عن أنَس بن مالك).
وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ} أَيِ ابْتَدَأَ خَلْقَكُمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا مَذْكُورًا، {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} أَيِ الْعُقُولَ وَالْإِدْرَاكَ، {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} أي قلّما تَسْتَعْمِلُونَ هَذِهِ الْقُوَى، الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فِي طَاعَتِهِ وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَتَرْكِ زَوَاجِرِهِ. {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} أَيْ بثكم ونشركم في أقطار الأرض، مع اختلاف ألسنتكم ولغاتكم وألوانكم، {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي تجتمعون بعد هذا التفرق والشتات، يَجْمَعُكُمْ كَمَا فَرَّقَكُمْ وَيُعِيدُكُمْ كَمَا بَدَأَكُمْ، ثُمَّ قال تعالى مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ، الْمُنْكِرِينَ لِلْمَعَادِ، الْمُسْتَبْعِدِينَ وُقُوعَهُ {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}؟ أي متى يقع هذا الذي تخبرنا عنه، {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ} أَيْ لَا يَعْلَمُ وَقْتَ ذَلِكَ عَلَى التَّعْيِينِ إِلَّا اللَّهُ عزَّ وجلَّ، لَكِنَّهُ أَمَرَنِي أَنْ أُخْبِرَكُمْ أَنَّ هَذَا كَائِنٌ وَوَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ فَاحْذَرُوهُ {وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي وَإِنَّمَا عليَّ الْبَلَاغُ وَقَدْ أَدَّيْتُهُ إِلَيْكُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهِ
الَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيْ لَمَّا قَامَتِ الْقِيَامَةُ وَشَاهَدَهَا الكفّار، ورأَوا أن الأمر كان قريباً، فَلَمَّا وَقَعَ مَا كَذَّبُوا بِهِ سَاءَهُمْ ذَلِكَ، وَجَاءَهُمْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي بَالٍ وَلَا حِسَابٍ، {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يحتسبون}، وَلِهَذَا يُقَالُ لَهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ {هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} أَيْ تَسْتَعْجِلُونَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute