الباهرات، ثم هم شاردون يميناً وشمالاً فرقاً فرقاً، {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ من قسورة}، قال تعالى: {فَمَا للذين كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} أَيْ فَمَا لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ عِنْدَكَ يَا مُحَمَّدُ {مُهْطِعِينَ} أَيْ مُسْرِعِينَ نافرين منك، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ {مُهْطِعِينَ}، أَيْ مُنْطَلِقِينَ، {عَنِ اليَمين وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} وَاحِدُهَا عِزَةٌ أَيْ متفرقين، وقال ابن عباس: {فما للذين كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} قَالَ: قَبِلَكَ يَنْظُرُونَ {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ} الْعِزِينُ: الْعَصَبُ مِّنَ النَّاسِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ معرضين يستهزئون به، وعن الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} أي مُتَفَرِّقِينَ يَأْخُذُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا يَقُولُونَ: مَا قَالُ هذا الرجل؟ وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خرج على أصحابه وهم حلق فقال: «مالي أراكم عزين؟» (أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة، ورواه أحمد ومسلم والنسائي بنحوه). وقوله تعالى: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلَاّ} أَيْ أَيُطْمِعُ هَؤُلَاءِ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ مِنْ فِرَارِهِمْ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنِفَارِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، أَنْ يَدْخُلُوا جَنَّاتِ النَّعِيمِ؟ كَلَّا بل مأواهم جهنم، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُقَرِّرًا لِوُقُوعِ الْمَعَادِ وَالْعَذَابِ بهم مستدلاً عليهم بالبداءة: {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ} أَيْ مِنَ الْمَنِيِّ الضعيف، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَاءٍ مهين}، وقال: {فَلْيَنظُرِ الإنسان مما خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترائب}، ثم قال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} أَيِ الَّذِي خلق السماوات والأرض، وسخَّر الْكَوَاكِبَ تَبْدُو مِنْ مَشَارِقِهَا وَتَغِيبُ فِي مغاربها، {إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُعِيدُهُمْ بِأَبْدَانٍ خَيْرٍ مِنْ هَذِهِ فَإِنَّ قُدْرَتَهُ صَالِحَةٌ لِذَلِكَ، {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أَيْ بِعَاجِزِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أن نسوي بنانه}، وَقَالَ تَعَالَى: {نَّحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فيما لا تعلمون}، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ {عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ} أَيْ أُمَّةً تُطِيعُنَا وَلَا تَعْصِينَا وَجَعَلَهَا كَقَوْلِهِ: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يكونوا أَمْثَالَكُم}، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِدَلَالَةِ الْآيَاتِ الْأُخَرِ عَلَيْهِ، والله سبحانه وتعالى أعلم. ثم قال تعالى: {فَذَرْهُمْ} أي يامحمد {يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ} أَيْ دَعْهُمْ فِي تَكْذِيبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، {حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} أَيْ فَسَيَعْلَمُونَ غِبَّ ذَلِكَ وَيَذُوقُونَ وَبَالَهُ، {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} أَيْ يَقُومُونَ مِنَ الْقُبُورِ، إِذَا دَعَاهُمُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِمَوْقِفِ الْحِسَابِ، يَنْهَضُونَ سِرَاعاً {كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} قال ابن عباس: إلى علَم يسعون، وقال أبو العالية: إلى غاية يسعون إليها. {نُصُب} بِضَمِّ النُّونِ وَالصَّادِّ وَهُوَ الصَّنَمُ، أَيْ كَأَنَّهُمْ فِي إِسْرَاعِهِمْ إِلَى الْمَوْقِفِ، كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا يُهَرْوِلُونَ إِلَى النُّصُبِ إِذَا عَايَنُوهُ، {يُوفِضُونَ} يَبْتَدِرُونَ أَيُّهُمْ يَسْتَلِمُهُ أَوَّلَ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عن مجاهد وقتادة والضحّاك وغيرهم، وقوله تعالى: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} أَيْ خَاضِعَةً {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أَيْ فِي مُقَابَلَةِ مَا اسْتَكْبَرُوا فِي الدُّنْيَا عَنِ الطاعة {ذَلِكَ اليوم الذي كانوا يوعدون}.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute