أَنْ نَجْعَلَهُ خُفًّا أَوْ حَافِرًا (وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ، قال ابن جرير: أي في الدنيا
لو شاء لجعل ذلك)، والظاهر من الآية أن قوله تعالى: {قَادِرِينَ} حال من قوله تعالى {نَّجْمَعَ} أَيْ أَيُظَنُّ الْإِنْسَانُ أَنَا لَا نَجْمَعُ عِظَامَهُ؟ بَلَى سَنَجْمَعُهَا قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ، أَيْ قُدْرَتُنَا صَالِحَةٌ لِجَمْعِهَا، وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَاهُ أَزْيَدَ مِمَّا كَانَ، فَنَجْعَلُ بَنَانَهُ وَهِيَ أَطْرَافُ أَصَابِعِهِ مُسْتَوِيَةً، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَالزَّجَّاجِ، وَقَوْلُهُ: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} قال ابن عباس: يعني يمضي قدماً، وعنه: يَقُولُ الْإِنْسَانُ: أَعْمَلُ ثُمَّ أَتُوبُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيُقَالُ: هُوَ الْكُفْرُ بِالْحَقِّ بَيْنَ يَدَيِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ}: لِيَمْضِيَ أَمَامَهُ راكباً رأسه، وقال الحسن: لا يلفى ابْنُ آدَمَ إِلَّا تَنْزِعُ نَفْسَهُ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ قُدُمًا قُدُمًا إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تعالى، وروي عن غير وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: هُوَ الَّذِي يَعْجَلُ الذُّنُوبَ ويسوّف التوبة، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الْكَافِرُ يُكَذِّبُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ مِنَ الْمُرَادِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}؟ أَيْ يَقُولُ مَتَى يَكُونُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا سُؤَالُهُ سُؤَالُ اسْتِبْعَادٍ لِوُقُوعِهِ وَتَكْذِيبٌ لِوُجُودِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لَاّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً ولا تستقدمون}، وقال تعالى ههنا: {فَإِذَا بَرِقَ البصر} بكسر الراء أي حار كقوله تعالى: {لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ}، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْأَبْصَارَ تَنْبَهِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَخْشَعُ وَتَحَارُ وَتَذِلُّ مِنْ شِدَّةِ الْأَهْوَالِ، وَمَنْ عِظَمِ مَا تُشَاهِدُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأُمُورِ.
وَقَوْلُهُ تعالى: {وَخَسَفَ القمر} أي ذهب ضوؤه، {وَجُمِعَ الشمس والقمر} قال مجاهد: كوّرا، كقوله {إِذَا الشمس كوّرت}، وقوله تعالى: {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} أَيْ إِذَا عَايَنَ ابْنُ آدَمَ هَذِهِ الْأَهْوَالَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حينئذٍ يُرِيدُ أَنْ يَفِرَّ وَيَقُولُ: {أَيْنَ الْمَفَرُّ}؟ أَيْ هَلْ مِنْ مَلْجَأٍ أَوْ مَوْئِلٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَلَاّ لَا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ: أي لا نجاة، وهذه الآية كقوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ} أَيْ لَيْسَ لَكُمْ مَكَانٌ تَتَنَكَّرُونَ فِيهِ، وَكَذَا قال ههنا: {لَا وَزَرَ} أَيْ لَيْسَ لَكُمْ مَكَانٌ تَعْتَصِمُونَ فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} أَيِ الْمَرْجِعُ وَالْمَصِيرُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} أَيْ يُخْبَرُ بِجَمِيعِ أَعْمَالِهِ قَدِيمِهَا وَحَدِيثِهَا، أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أحداً}، وهكذا قال ههنا: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} أَيْ هُوَ شَهِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ عَالِمٌ بِمَا فَعَلَهُ وَلَوِ اعْتَذَرَ وَأَنْكَرَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} يقول: سمعه وبصره ويديه ورجليه وَجَوَارِحُهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: شَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: إِذَا شِئْتَ وَاللَّهِ رَأَيْتَهُ بَصِيرًا بِعُيُوبِ النَّاسِ وَذُنُوبِهِمْ، غَافِلًا عَنْ ذُنُوبِهِ وَكَانَ يُقَالُ: إِنَّ فِي الْإِنْجِيلِ مَكْتُوبًا: يَا ابْنَ آدَمَ تُبْصِرُ الْقَذَاةَ فِي
عَيْنِ أَخِيكَ، وَتَتْرُكُ الجذع فِي عَيْنِكَ لَا تُبْصِرُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} وَلَوْ جَادَلَ عَنْهَا فَهُوَ بَصِيرٌ عَلَيْهَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} وَلَوِ اعْتَذَرَ يومئذٍ بِبَاطِلٍ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ، وَقَالَ السدي: {وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ} حجته، واختاره ابن جرير، وقال الضحّاك: ولو ألقى سُتُورَهُ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ يُسَمَّوْنَ السِّتْرَ الْمِعْذَارَ، وَالصَّحِيحُ قول مجاهد وأصحابه، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَاّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، وكقوله تَعَالَى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute