للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

أي أدبر، وعندي أن المراد بقوله: {إِذَا عَسْعَسَ} إِذَا أَقْبَلَ، وَإِنْ كَانَ يَصِحُّ اسْتِعْمَالُهُ في الإدبار أيضاً، لكن الإقبال ههنا أنسب، كأنه أقسم بِاللَّيْلِ وَظَلَامِهِ إِذَا أَقْبَلَ، وَبِالْفَجْرِ وَضِيَائِهِ إِذَا أشرق، كما قال تعالى: {والليل إِذَا يغشى * والنهار إِذَا تجلى}، وقال تعالى: {والضحى * والليل إِذَا سجى}، وَقَالَ تَعَالَى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} وغير ذلك من الآيات، وقوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} قَالَ الضَّحَّاكُ: إِذَا طَلَعَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذَا أَضَاءَ وَأَقْبَلَ، وَقَالَ سَعِيدُ بن جبير: إذا نشأ، وقال ابن جرير: يعني ضوء النهار إذا أقبل وتبيّن.

وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَتَبْلِيغُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، أَيْ مَلَكٌ شَرِيفٌ حَسَنُ الْخَلْقِ بَهِيُّ الْمَنْظَرِ، وَهُوَ (جِبْرِيلُ) عَلَيْهِ الصلاة والسلام، {ذِي قُوَّةٍ} كقوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى * ذُو مِرَّةٍ} أَيْ شَدِيدُ الْخَلْقِ شَدِيدُ الْبَطْشِ وَالْفِعْلِ، {عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} أَيْ لَهُ مَكَانَةٌ عِنْدَ الله عزَّ وجلَّ ومنزلة رفيعة، {مُّطَاعٍ ثَمّ} أَيْ لَهُ وَجَاهَةٌ وَهُوَ مَسْمُوعُ الْقَوْلِ مُطَاعٌ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، قَالَ قَتَادَةُ: {مُّطَاعٍ ثَمَّ} أَيْ فِي السَّمَوَاتِ، يَعْنِي لَيْسَ هو من أفناد (أفناد: جماعات) الْمَلَائِكَةِ، بَلْ هُوَ مِنَ السَّادَةِ وَالْأَشْرَافِ، مُعْتَنَى به انتخب لهذه الرسالة العظيمة، وقوله تعالى: {أَمِينٍ} صِفَةٌ لِجِبْرِيلَ بِالْأَمَانَةِ، وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا، أَنَّ الرَّبَّ عزَّ وجلَّ يُزَكِّي عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ الْمَلَكِيَّ جِبْرِيلَ كَمَا زَكَّى عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ الْبَشَرِيَّ محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} قال الشعبي وميمون: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} يَعْنِي وَلَقَدْ رَأَى مُحَمَّدُ (جِبْرِيلَ)، الَّذِي يَأْتِيهِ بِالرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا لَهُ سِتُّمِائَةُ جَنَاحٍ، {بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} أَيِ البيِّن، وهي الرؤية الأولى كَانَتْ بِالْبَطْحَاءِ، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الأعلى}، والظاهر أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا إِلَّا هَذِهِ الرُّؤْيَةَ وَهِيَ الْأُولَى، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يغشى} فَتِلْكَ إِنَّمَا ذُكِرَتْ فِي سُورَةِ النَّجْمِ، وَقَدْ نزلت بعد سورة الإسراء، وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ على الغيب بِظَنِينٍ} أَيْ بِمُتَّهَمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِالضَّادِ، أَيْ بِبَخِيلٍ بَلْ يَبْذُلُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ. قال سفيان بن عيينه: (ظنين) و (ضنين) سواء، أي ما هو بفاجر، و (الظنين) المتهم، و (الضنين) الْبَخِيلُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ الْقُرْآنُ غَيْبًا فَأَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، فَمَا ضَنَّ بِهِ عَلَى الناس بل نشره وبلغه وبذله لكل من أراده، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ قِرَاءَةَ الضَّادِ. (قُلْتُ): وَكِلَاهُمَا متواتر ومعناه صحيح كما تقدَّم، وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} أَيْ وَمَا هَذَا الْقُرْآنُ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ، أَيْ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِهِ وَلَا يُرِيدُهُ وَلَا يَنْبَغِي له، كما قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السمع لمعزولون}. وقوله تعالى: {فَأيْنَ تَذْهَبُونَ}؟ فَأَيْنَ تَذْهَبُ عُقُولُكُمْ فِي تَكْذِيبِكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ، مع ظهوره ووضوحه وبيان كونه حقاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ! كَمَا قَالَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِوَفْدِ بَنِي حَنِيفَةَ حِينَ قَدِمُوا مُسْلِمِينَ، وَأَمَرَهُمْ فَتَلَوْا عَلَيْهِ شَيْئًا من قرآن مسيلمة الكذّاب الَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ الْهَذَيَانِ وَالرَّكَاكَةِ فَقَالَ: «ويحكم أين تذهب عقولكم؟ وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ إِلٍّ» أَيْ مِنْ إِلَهٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: {فَأيْنَ تَذْهَبُونَ} أَيْ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>