كَانَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِإِخْرَاجِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَيَتْلُو هذه الآية: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}، وَقَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الآية: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} زَكَّى مَالَهُ وَأَرْضَى خَالِقَهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أَيْ تُقَدِّمُونَهَا عَلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَتُبْدُونَهَا عَلَى مَا فيه نفعكم وصلاحكم في معاشكم ومعادكم، {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أَيْ ثَوَابُ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَأَبْقَى، فَإِنَّ الدنيا دانية فَانِيَةٌ، وَالْآخِرَةَ شَرِيفَةٌ بَاقِيَةٌ، فَكَيْفَ يُؤْثِرُ عَاقِلٌ مَا يَفْنَى عَلَى مَا يَبْقَى، وَيَهْتَمُّ بِمَا يَزُولُ عَنْهُ قَرِيبًا وَيَتْرُكُ الِاهْتِمَامَ بِدَارِ الْبَقَاءِ والخلد؟ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ، وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لا عقل له» (أخرجه أحمد عن عائشة مرفوعاً) عن عجرفة الثَّقَفِيِّ قَالَ: اسْتَقْرَأْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} فَلَمَّا بَلَغَ {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} تَرَكَ الْقِرَاءَةِ وَأَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ: آثَرْنَا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَقَالَ: آثَرْنَا الدُّنْيَا لِأَنَّا رَأَيْنَا زِينَتَهَا وَنِسَاءَهَا وَطَعَامَهَا وَشَرَابَهَا، وَزُوِيَتْ عَنَّا الْآخِرَةُ، فَاخْتَرْنَا هَذَا الْعَاجِلَ وَتَرَكْنَا الْآجِلَ، وَهَذَا مِنْهُ عَلَى وَجْهِ التَّوَاضُعِ والهضم، وفي الحديث: «مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى ما يفنى» (أخرجه أحمد عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً)، وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى} كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النَّجْمِ: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى ربك المنتهى} الآيات إلى آخرهن؛ وهكذا قال عكرمة في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} يَقُولُ: الْآيَاتُ الَّتِي فِي {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: قِصَّةُ هَذِهِ السُّورَةِ فِي الصُّحُفِ الْأُولَى، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا} إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}، ثم قال تعالى: {إن هذا} أي مضمون الْكَلَامِ {لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} وهذا الذي اختاره حَسَنٌ قَوِيٌّ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ زيد نحوه، والله أعلم.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute