للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لَكِنْ اقْتَضَتْ الضَّرُورَةُ الْمُسَامَحَةَ بِهِ عَلَى أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرُ خَارِجٍ لِمَا وَجَّهَهُ بِهِ بَعْضُ الْأَصْحَابِ مِنْ أَنَّهُ تَحْكِيمٌ وَمِنْ قَوَاعِدِهِ أَنَّ الْمُحْكَمَ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَاكِمِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ خُرُوجُهُ عَنْ قَوَاعِدِهِ أَنْ لَوْ قَالَ إنَّهَا تُبَاشِرُ عَقْدَ النِّكَاحِ بِنَفْسِهَا كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَهَذَا هُوَ الْخَارِجُ عَنْ قَوَاعِدِهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَأَمَّا مَا رَوَاهُ يُونُسُ فَلَيْسَ خَارِجًا عَنْهَا بِالِاعْتِبَارِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَلَى أَنَّ يُونُسَ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهَذَا النَّصِّ فَقَدْ حَكَاهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ الْمُزَنِيّ أَيْضًا وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْمُعَوَّلِ عَلَى نَقْلِهِ عِنْدَ الْأَصْحَابِ فَانْدَفَعَ مَا نَقَلَهُ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ عَنْ الْخَطَّابِيِّ أَمَّا قَوْلُهُ أَعْنِي الْعِرَاقِيَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا يَثْبُتُ بِاخْتِيَارِ النَّوَوِيِّ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَسْتَعْمِلُ هَذِهِ الْعِبَارَةَ فِيمَا رَجَحَ دَلِيلُهُ عِنْدَهُ لَا مِنْ جِهَةِ الْمَذْهَبِ إلَخْ فَعَجِيبٌ مِنْهُ مَعَ قَوْلِ شَيْخِهِ الْإِسْنَوِيّ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْمُخْتَارَ إذَا وَقَعَ التَّعْبِيرُ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ كَانَ بِمَعْنَى الرَّاجِحِ مَذْهَبًا كَيْفَ وَالنَّوَوِيُّ مُسْتَظْهِرٌ عَلَى مَا قَالَهُ بِأَنَّهُ ظَاهِرُ نَصِّهِ الَّذِي نَقَلَهُ يُونُسُ فَهُوَ مَعَ جَلَالَتِهِ وَعَظِيمِ وَرَعِهِ وَتَحَرِّيهِ مُثْبِتٌ لِنَصِّ يُونُسَ وَمُحْتَجٌّ بِهِ عَلَى مَا قَالَهُ وَأَنَّ مَا قَالَهُ هُوَ ظَاهِرُ هَذَا النَّصِّ فَكَيْف مَعَ ذَلِكَ يُنْكِرُ نِسْبَةَ مَا رَوَاهُ يُونُسُ لِلشَّافِعِيِّ.

وَيُقَالُ إنَّ النَّوَوِيَّ اخْتَارَهُ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ لَا الْمَذْهَبِ وَيُقَالُ نَحْنُ شَافِعِيَّةٌ لَا نَوَوِيَّةٌ كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا لَا نَظَرَ إلَيْهِ وَلَا تَعْوِيلَ عَلَيْهِ وَمِنْ ثَمَّ جَاءَ بَعْدَ الْوَلِيِّ جَمَاعَةٌ هُمْ تَلَامِذَتُهُ وَتَلَامِذَةُ تَلَامِذَتِهِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُعَوِّلُوا عَلَى مَا قَالَهُ وَلَا الْتَفَتُوا إلَيْهِ وَأَعْرَضُوا عَنْهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَارٍ عَلَى سُنَنِ الِاعْتِدَالِ فِي الِاسْتِدْلَالِ فَبَطَلَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ مِنْ أُمُورِ أَمْرِ هَذَا الْمُجِيبِ وَقَوْلِهِ فَعَلَى هَذَا مَا اخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ إلَخْ بَاطِلٌ أَيْضًا لِمَا عَلِمَتْ أَنَّهُ لَمْ يَخْتَرْهُ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ وَإِنَّمَا رَجَّحَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَذْهَبِ وَمَا رَجَّحَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَذْهَبِ هُوَ الْحُجَّةُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَتَهُ بِلَا مُنَازِعٍ وَلَا مُدَافِعٍ وَقَوْلُهُ الْأَمْرُ الثَّانِي أَنَّ الْإِمَامَ الْبَيْهَقِيّ إلَخْ غَيْرُ نَافِعٍ لَهُ أَيْضًا لِأَنَّ غَايَةَ الْأَمْرِ أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ.

وَقَدْ رَجَّحَ النَّوَوِيُّ أَحَدَهُمَا وَتَبِعُوهُ فَلَا مَحِيدَ عَنْهُ وَلَا يُسَوَّغُ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهُ وَانْفِرَادُ الْوَلِيِّ الْعِرَاقِيِّ بِتَعَقُّبِهِ قَدْ عَلِمْت أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَلَا مُعَوَّل عَلَيْهِ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّصَّ لَا يُخَالِفُ الْأَوَّلَ لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِيهِ التَّعْبِيرُ بِأَنَّهَا فَقَدَتْ وَلَيَّهَا وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَا إذَا لَمْ تَفْقِدْهُ جَمْعًا بَيْن النَّصَّيْنِ وَكَذَا مَا فَعَلَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَاقِعَةٌ مُحْتَمَلَةٌ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ غَيْرُ حُجَّةٍ عِنْدنَا وَقَوْلُهُ الْأَمْرُ الثَّالِثُ لَا يُفِيدُهُ أَيْضًا لِمَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْ قَوَاعِدِ الْمَذْهَبِ لَكِنَّ الضَّرُورَةَ اقْتَضَتْ الْمُسَامَحَةَ بِهِ وَمَا جَازَ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُجَوَّزَ لَهُ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ قَوَاعِدِهِ لَكِنَّهُ يَقُولُ اقْتَضَتْ الضَّرُورَةُ خُرُوجَهُ عَنْهَا فَعَمِلْت بِهِ لِلْقَاعِدَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ.

عَلَى أَنَّهُ مَرَّ عَنْ الْأَذْرَعِيُّ فِي جَوَابِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا مُخَالِفًا لِظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَيَكُونَ مَوْضِعُ الْمَنْعِ عَلَى الْمَذْهَبِ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ نُصُوصِهِ اهـ وَقَوْلُهُ الْأَمْرُ الرَّابِعُ أَنَّ الْإِمَامَ ابْنَ الْقَطَّانِ إلَخْ مِنْ الْإِطَالَةِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ إذْ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ ابْنَ الْقَطَّانِ مُجْتَهِدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ صَدَرَ مِنْهُ نِزَاعٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ وَهُوَ غَيْرُ مُعَوَّلٍ عَلَيْهِ فَإِنَّا لَمْ نَدَّعِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا حَتَّى يُورِدَ عَلَيْنَا مِثْلَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الَّذِي ادَّعَيْنَاهُ أَنَّهَا مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ الْأَصْحَابِ وَمَنْشَأُ اخْتِلَافِهِمْ اخْتِلَافُ نَصَّيْهِ السَّابِقَيْنِ.

وَأَنَّ قَوَاعِدَهُ مِنْهَا مَا يَقْتَضِي الْأَوَّلَ وَمِنْهَا مَا يَقْتَضِي الثَّانِي فَهَذَا هُوَ سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ لَكِنَّ الْمُعْتَمَدُ الْجَوَازُ وَيَرُدُّ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَنْعُ التَّحْكِيمِ مِنْ أَصْلِهِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَرَ أَنَّ الْمُحَكَّمَ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَاكِمِ لَزِمَهُ أَنْ لَا يُجَوِّزَ تَحْكِيمَهُ وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِهِ وَقَوْلِ الْأَصْحَابِ فَعَلِمْنَا مِنْ كَلَامِهِمْ فِي التَّحْكِيمِ أَنَّ الْمُحَكَّمَ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَاكِمِ وَأَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» إنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى حَالِ وُجُودِ السُّلْطَانِ أَمَّا مَعَ فَقْدِهِ كَمَا هُوَ الْغَرَضُ فَكَيْف يُسْتَدَلُّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ لَنَا أَنْ نَقُولَ أَنَّ الْمُحَكَّمَ دَاخِلٌ فِي السُّلْطَانِ إذْ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ لَهُ سَلْطَنَةٌ وَهِيَ ثَابِتَةٌ بِالتَّحْكِيمِ فَشَمِلَهُ الْحَدِيثُ.

وَانْدَفَعَتْ

<<  <  ج: ص:  >  >>