للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْجَمْرَةِ الْأُولَى ظَهَرَ لَهُ إبْلِيسُ اللَّعِينُ لِيُثْنِيَ عَزْمَهُ عَنْ ذَلِكَ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى غَابَ عَنْهُ ثُمَّ انْتَقَلَ إبْرَاهِيمُ إلَى مَحَلِّ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى فَبَرَزَ لَهُ اللَّعِينُ وَرَمَاهُ بِسَبْعٍ إلَى أَنْ غَابَ فِي الْأَرْضِ أَيْضًا ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى مَحَلِّ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَبَرَزَ لَهُ فَرَمَاهُ بِسَبْعٍ حَتَّى غَابَ فِي الْأَرْضِ أَيْضًا» كَمَا جَاءَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي حَدِيثٍ فَلِذَا وَجَبَ الرَّمْيَ إحْيَاءً لِتِلْكَ الْمَنْقَبَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي وَقَعَتْ لِأَبِينَا إبْرَاهِيمَ لِنَتَذَكَّرَهُ وَنُحْيِيَ مَعَالِمَهُ وَنَتَأَسَّى بِهِ فِي دَفْعِ الشَّيْطَانِ بِكُلِّ مَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ بَرَزَ لَنَا لَحَصَبْنَاهُ كَمَا حَصَبَهُ أَبُونَا.

وَمِنْ ثَمَّ يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ عِنْدَ الرَّمْيِ أَنْ يَتَذَكَّرَ ذَلِكَ وَظَهَرَ بِمَا تَقَرَّرَ حِكْمَةُ وُجُوبِ رَمْيِ الْحِجَارَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ أَنَّ ذَلِكَ تَعَبُّدٌ وَنَظِيرُهُ وُجُوبِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ إظْهَارًا لِتَعْظِيمِهِ وَلِإِحْيَاءِ شِعَارِ الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّهُمْ طَافُوا بِهِ أَلْفَيْ سَنَةٍ قَبْلَ آدَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشِعَارُ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُ مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا حَجَّ الْبَيْتَ خِلَافًا لِمَنْ اسْتَثْنَى هُودًا وَصَالِحًا.

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - وَأَمَّا الْمَوَاقِيتُ فَحِكْمَتُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ فِي مُلُوكِ الدُّنْيَا أَنَّهُ إذَا وَفَدَ عَلَيْهِمْ عَبِيدُهُمْ أَوْ عُصَاةُ عَبِيدهمْ يَكُونُونَ عَلَى غَايَة مِنْ الذِّلَّة وَالْخُضُوع وَالشُّعْثِ وَالْغَبَرَةِ رَجَاءً لِرِضَا سَادَاتِهِمْ إذَا رَأَوْهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ الَّذِي كُلُّ مَنْ رَأَى صَاحِبَهُ رَحِمَهُ فَأَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قَاصِدِي الدُّخُولِ إلَى حَضْرَتِهِ الْعُظْمَى الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ حَضَرَاتِ الدُّنْيَا إذْ اجْتِمَاعُ النَّاسِ بِعَرَفَةَ كَاجْتِمَاعِهِمْ فِي الْمَوْقِفِ وَدُخُولُهُمْ إلَى حَرَمِهِ وَأَمْنِهِ كَدُخُولِهِمْ إلَى الْجَنَّةِ أَنْ لَا يَأْتُوهَا إلَّا وَهُمْ غُبْرٌ شُعْثٌ عُرَى عَلَى غَايَةٍ مِنْ الْخُضُوعِ وَالذِّلَّةِ كَمَا يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ فِي الْمَحْشَرِ كَذَلِكَ لِيَتَحَقَّقُوا بِمَا يُنِيلُهُمْ خَيْرَ مَا عِنْدَهُ أَنَّهُ عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِهِ وَإِنَّمَا كَانَ مِيقَاتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبْعَدَهَا لِمَزِيدِ فَضْلِهِ وَلِيُنَاسَبَ إكْمَالَ الْأَكْبَرِ الَّذِي أُوتِيَهُ وَكَانَتْ الْجُحْفَةُ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا الَّتِي تَلِيه بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْمَوَاقِيتِ فَلِذَا اسْتَوَتْ وَهَذَا الْمَحَلُّ يَحْتَاجُ إلَى مَزِيدِ بَسْطٍ لَكِنْ ضَاقَ الْقِرْطَاسُ عَنْهُ وَقَدْ أَشَرْت إلَى أُصُولِهِ بِمَا لَمْ أَرَ مَنْ سَبَقَنِي إلَيْهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ عَنْ شَخْصٍ أَحْرَمَ إحْرَامًا مُطْلَقًا ثُمَّ أَفْسَدَهُ وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُعَيِّنَ شَيْئًا وَأَرَادَ الْوَرَثَةُ أَنْ يَقْضُوا عَنْهُ مَا أَفْسَدَهُ أَيَقْضُونَ عَنْهُ حَجًّا وَعُمْرَةً وَلَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ بِغَيْرِ هَذَا لِأَنَّهُ اشْتَغَلَتْ ذِمَّتُهُ بِإِحْرَامٍ وَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لَهُمَا فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِقَضَائِهِمَا كَمَا لَوْ شَكَّ مَنْ عَلَيْهِ خَمْسُ دَرَاهِمَ وَشَاةٍ هَلْ أُخْرِجُ أَحَدَهُمَا أَمْ لَا فَإِنَّهُ لَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ إلَّا بِقَضَائِهِمَا أَمْ يَقْضُونَ عَنْهُ أَحَدَهُمَا وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ بِهِ لِأَنَّهُ اشْتَغَلَتْ ذِمَّتُهُ بِإِحْرَامٍ وَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِأَحَدِهِمَا وَإِذَا فَعَلُوا أَحَدَهُمَا كَانَ الْآخَرُ كَالْمَشْكُوكِ وَالْمَشْكُوكُ كَالْمَعْدُومِ كَمَا لَوْ شَكَّ هَلْ عَلَيْهِ خَمْسُ دَرَاهِمَ أَوْ شَاةٍ فَقَضَى أَحَدُهُمَا فَإِنَّهُ تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ بِهِ.

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ أَمَّا الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى مُقَدَّمَةٍ غَفَلَ عَنْهَا السَّائِلُ نَفَعَ اللَّهُ بِهِ وَهِيَ أَنَّ إفْسَادَ الْإِحْرَامِ الْمُطْلَقِ لَا يَقْتَضِي تَعْيِينَهُ بَلْ هُوَ بَعْدَ الْإِفْسَادِ بَاقٍ عَلَى إطْلَاقِهِ فَإِنْ عَيَّنَهُ بَعْدَ الْإِفْسَادِ لِحَجٍّ كَانَ مُفْسِدًا لَهُ أَوْ لِعُمْرَةٍ كَانَ مُفْسِدًا لَهَا أَوْ لَهُمَا وَإِنَّ الْوَارِثَ هَلْ يَقُومُ مَقَامَهُ مُورِثُهُ فِي التَّعْيِينِ أَخْذًا بِعُمُومِ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ خَلِيفَتُهُ أَوَّلًا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي هَذَا لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ النِّيَّاتِ وَهِيَ لَا تَقْبَلُ النِّيَابَةَ وَاَلَّذِي يَتَّجِهُ تَرْجِيحُهُ هُوَ الثَّانِي فَقَدْ صَرَّحُوا بِنَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِمْ لَوْ أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَمَاتَ قَبْلَ اخْتِيَارِ وَاحِدَةٍ أَوْ أَكْثَرِ مِنْهُنَّ لَمْ يَقُمْ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُمْ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتَيْهِ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ وَلَمْ يَقْصِدْ مُعَيَّنَةً مِنْهُمَا وَمَاتَ قَبْلَ التَّعْيِينِ لَمْ يُعَيَّنْ وَارِثُهُ كَمَا صَحَّحَهُ فِي الْمِنْهَاجِ وَتَصْحِيحِ التَّنْبِيهِ خِلَافًا لِمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا وَتَبِعَهُ الْحَاوِي مِنْ أَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِيهِ كَالْبَيَانِ وَالْفَرْقُ عَلَى الْأَوَّلِ الْمُعْتَمِدِ كَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْإِرْشَادِ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْبَيَانَ إخْبَارٌ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ بِخَبَرٍ أَوْ قَرِينَةٍ وَالتَّعَيُّنُ اخْتِيَارٌ يَصْدُرُ عَنْ شَهْوَةٍ فَلَا يَخْلُفُهُ الْوَارِثُ فِيهِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا مَرَّ فِيمَنْ أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ.

وَوَجْهُ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ مَسْأَلَتِنَا وَهَذَيْنِ أَنَّ التَّعْيِينَ فِيهَا اخْتِيَارٌ يُصْدَرُ عَنْ شَهُوّهُ أَيْضًا لِأَنَّ مَنْ أَحْرَمَ إحْرَامًا مُطْلَقًا يُفَوَّضُ التَّعْيِينُ إلَى اخْتِيَارِهِ وَشَهْوَتِهِ فَهُمَا عَيْنُهُ مِنْهُمَا لَزِمَهُ الْجَرْيُ عَلَى أَحْكَامِهِ فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ وَأَنَّ الْوَارِثَ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فِي تَعْيِينِ ذَلِكَ الْإِحْرَامِ

<<  <  ج: ص:  >  >>