⦗٧٤⦘ ٤٥٩٦ - (الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن) حقيقة الزهد التوكل حتى يكون ثقته بقسمة الله فإن ما في يده قد يكون رزق غيره ولا يفرح به ولا يطمئن ولا إلى ما يرجوه من يد غيره فيستريح قلبه من همها وغم ما يفوت منها وبدنه من كد الحرص وكثرة التعب في طلبها فلم يغتم قلبه على ما فات ولم ينصب بدنه فيما هو آت وإن جهل ذلك يعذب قلبه بتوقع ما لم يقسم منها ويحزن لذلك على كل فائت منها فتستخدمه الدنيا ويصير من عيد الهوى بطالا من خدمة المولى فيقسو قلبه ببطالته وأبعد القلوب من الله القلب القاسي (والرغبة فيها تكثر الهم والحزن والبطالة تقسي القلب (١)) ومن ثمة ترك الصحب السعي في تخليصها بالكلية واشتغل أكثرهم بالعلوم والمعارف وبالتعبد حتى لم يبقوا من أوقاتهم شيئا إلا وهم مشغولون بذلك ومن حصلها منهم إنما كان خازنا لله وذلك لا ينافي زهده فيها لأنهم لم يمسكوها لأنفسهم بل للمستحقين وقت الحاجة بحسب ما يقتضيه الاجتهاد في رعاية الأصلح <تنبيه> سئل بعض الصوفية إذا كان حقيقة الزهد ترك شيء ليس له فالزاهد جاهل لأنه ما زهد إلا في عدم ولا وجود له فقال: صحيح لكن شرع الزهد ليخرج من حجاب المزاحمة على الدنيا فالمحجوب كلما لاح له شيء قال: هذا لي فيقبض عليه فلا يتركه إلا عجزا وأما العارف فلا قيمة للزهد عنده لعلمه بأن ما قسم له لا يتصور تخلفه وما لا يقسم لا يمكنه أخذه فاستراح والدنيا لا تزن عندهم جناح بعوضة فلا يرون الزهد عندهم مقاما وعليه قيل:
تجرد عن مقام الزهد قلبي. . . فأنت الحق وحدك في شهودي
أأزهد في سواك وليس شيء. . . أراه سواك يا سر الوجود؟
ومنهم من احتقر كل ما في الدنيا مما لم يؤمر بتعظيمه فرآه لشدة حقارته عدما ومنهم من تخلق بأخلاق الله ورأى الوجود كله من شعائر الله فلم يزهد في شيء بل استعمل كل شيء فيما خلق له وهو الكامل وإنما زهد الأنبياء في الدنيا حتى عرضها عليهم تشريعا فإن بداية مقامهم تؤخذ من بعد نهاية الأولياء من زهد ومن لم يزهد فبالنظر لمقامهم لا يزهدون وبالنظر لأممهم يزهدون وأنشدوا:
الزهد ترك وترك الترك معلوم. . . بأنه مسك ما في الكف مقبوض
الزهد ليس في العلم مرتبة. . . وتركه عند أهل الجمع مفروض
أي لأنه ما ثم إلا تخلق بأخلاق الله وهو لم يزهد في الكون لأنه مدبره ولو تركه لاضمحل في لمحة فيقال للزاهد بمن تخلقت في زعمك ترك الدنيا؟ بل نفسك الخارج من جوفك من الدنيا فاتركه تموت
(القضاعي) في مسند الشهاب (عن ابن عمرو) بن العاص ورواه أيضا ابن لال والحاكم والطبراني والديلمي وغيرهم فعدول المصنف للقضاعي واقتصاره عليه غير جيد
(١) أي والشغل بالعبادة أو باكتساب الحلال للعيال يرققه قال أبو يزيد: ما غلبني إلا شاب من بلخ قال لي: ما حد الزهد عندكم قلت: إن وجدنا أكلنا وإن فقدنا صبرنا فقال: هكذا عندنا كلاب بلخ قلت: فما حده عندكم قال: إن فقدنا صبرنا وإن وجدنا آثرنا