وَأَمَّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِأَنَّ الْمُلَاعِنَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا أَصَحَّهُ مِنْ حَدِيثٍ، وَمَا أَبْعَدَهُ مِنِ اسْتِدْلَالِكُمْ عَلَى جَوَازِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي نِكَاحٍ يُقْصَدُ بَقَاؤُهُ وَدَوَامُهُ، ثُمَّ الْمُسْتَدِلُّ بِهَذَا إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ: إِنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ عَقِيبَ لِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ، كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ، أَوْ عَقِيبَ لِعَانِهِمَا وَإِنْ لَمْ يُفَرِّقِ الْحَاكِمُ، كَمَا يَقُولُهُ أحمد فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ حِينَئِذٍ لَغْوٌ لَمْ يُفِدْ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُوَقِّفُ الْفُرْقَةَ عَلَى تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ، لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَيْضًا لِأَنَّ هَذَا النِّكَاحَ لَمْ يَبْقَ سَبِيلٌ إِلَى بَقَائِهِ وَدَوَامِهِ، بَلْ هُوَ وَاجِبُ الْإِزَالَةِ، وَمُؤَبَّدُ التَّحْرِيمِ، فَالطَّلَاقُ الثَّلَاثُ مُؤَكِّدٌ لِمَقْصُودِ اللِّعَانِ، وَمُقَرِّرٌ لَهُ، فَإِنَّ غَايَتَهُ أَنْ يُحَرِّمَهَا عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَفُرْقَةُ اللِّعَانِ تُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ عَلَى الْأَبَدِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نُفُوذِ الطَّلَاقِ فِي نِكَاحٍ قَدْ صَارَ مُسْتَحِقَّ التَّحْرِيمِ عَلَى التَّأْبِيدِ نُفُوذُهُ فِي نِكَاحٍ قَائِمٍ مَطْلُوبِ الْبَقَاءِ وَالدَّوَامِ، وَلِهَذَا لَوْ طَلَّقَهَا فِي هَذَا الْحَالِ وَهِيَ حَائِضٌ، أَوْ نُفَسَاءُ أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ، لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا، لِأَنَّ هَذَا النِّكَاحَ مَطْلُوبُ الْإِزَالَةِ مُؤَبَّدُ التَّحْرِيمِ، وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّكُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِتَقْرِيرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هَذَا الطَّلَاقِ الْمَذْكُورِ، وَلَا تَتَمَسَّكُونَ بِإِنْكَارِهِ وَغَضَبِهِ لِلطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مِنْ غَيْرِ الْمُلَاعِنِ، وَتَسْمِيَتُهُ لَعِبًا بِكِتَابِ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَمْ بَيْنَ هَذَا الْإِقْرَارِ وَهَذَا الْإِنْكَارِ؟ وَنَحْنُ بِحَمْدِ اللَّهِ قَائِلُونَ بِالْأَمْرَيْنِ، مُقِرُّونَ لِمَا أَقَرَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْكِرُونَ لِمَا أَنْكَرَهُ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِحَدِيثِ عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ( «أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ؟ قَالَ: " لَا حَتَّى تَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ» ) ، فَهَذَا لَا نُنَازِعُكُمْ فِيهِ، نَعَمْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنِ اكْتَفَى بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الثَّانِي، وَلَكِنْ أَيْنَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ طَلَّقَ الثَّلَاثَ بِفَمٍ وَاحِدٍ، بَلِ الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لَنَا، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، وَقَالَ ثَلَاثًا إِلَّا مَنْ فَعَلَ، وَقَالَ: مَرَّةً بَعْدَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute