للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ لَحْمَ السَّمَكِ لَا يَحْنَثُ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ لِأَنَّهُ يُسَمَّى لَحْمًا فِي الْقُرْآنِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّسْمِيَةَ مَجَازِيَّةٌ لِأَنَّ اللَّحْمَ مُنْشَؤُهُ مِنْ الدَّمِ وَلَا دَمَ فِيهِ لِسُكُونِهِ فِي الْمَاءِ

خَطَأِ خِلَافِهِ ذُكِرَ فِيهَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.

وَصُوَرُ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعٌ: وَهُمَا مَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا فَأَكَلَ رُطَبًا مُذَنِّبًا، وَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا فَأَكَلَ بُسْرًا مُذَنِّبًا فَإِنَّهُ يَحْنَثُ فِي هَاتَيْنِ اتِّفَاقًا. وَخِلَافِيَّتَانِ: وَهُمَا مَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا فَأَكَلَ بُسْرًا مُذَنِّبًا. وَأَمَّا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا فَأَكَلَ رُطَبًا مُذَنِّبًا فَإِنَّهُ يَحْنَثُ فِي هَاتَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْبُسْرَ الْمُذَنِّبَ لَا يُسَمَّى رُطَبًا لِأَنَّ الرُّطَبَ فِيهِ مَقْلُوبٌ وَأَنَّ الرُّطَبَ الَّذِي فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْبُسْرِيَّةِ لَا يُسَمَّى بُسْرًا فَلَمْ يَفْعَلْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فَلَا يَحْنَثُ. وَكَذَا لَا يَحْنَثُ فِي شِرَائِهِمَا بِحَلِفِهِ لَا يَشْتَرِي بُسْرًا أَوْ رُطَبًا. وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ أَكْلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ هُوَ أَكْلُ رُطَبٍ وَبُسْرٍ فَيَحْنَثُ بِهِ لَا بِالْكُلِّ وَهَذَا لِأَنَّ أَكْلَ كُلِّ جُزْءٍ مَقْصُودٌ لِأَنَّهُ يَمْضَغُ وَيَبْلَغُ بِمَضْغٍ وَابْتِلَاعٍ يَخُصُّهُ فَلَا يَتْبَعُ الْقَلِيلُ مِنْهُ الْكَثِيرَ، بِخِلَافِ الشِّرَاءِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِجُمْلَةٍ لِلْمُشْتَرِي مِنْهُمَا فَيَكُونُ الْقَلِيلُ فِيهِ تَبَعًا لِلْكَثِيرِ. وَكَذَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ رُطَبًا فَاشْتَرَى كِبَاسَةَ بُسْرٍ فِيهَا رُطَبٌ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الشِّرَاءَ صَادَفَ الْمَجْمُوعَ فَكَانَ الرُّطَبُ تَابِعًا، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَعِيرًا فَأَكَلَ حِنْطَةً فِيهَا شَعِيرٌ حَبَّةً حَبَّةً حَنِثَ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى الشِّرَاءِ لَمْ يَحْنَثْ ذَكَرَهُ الشَّهِيدُ فِي كَافِيهِ.

وَقَدْ يُقَالُ أَوَّلًا التَّعْلِيلُ لِلْمَذْكُورِ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا فَصَلَهُ فَأَكَلَهُ وَحْدَهُ. أَمَّا لَوْ أَكَلَ ذَلِكَ الْمَحَلَّ مَخْلُوطًا بِبَعْضِ الْبُسْرِ تَحَقَّقَتْ التَّبَعِيَّةُ فِي الْأَكْلِ، وَثَانِيًا هُوَ بِنَاءً عَلَى انْعِقَادِ الْيَمِينِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا الْعُرْفِ وَإِلَّا فَالرُّطَبُ الَّذِي فِيهِ بُقْعَةُ بُسْرٍ لَا يُقَالُ لِآكِلِهِ آكِلُ بُسْرٍ فِي الْعُرْفِ فَكَانَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَقْعَدَ بِالْمَبْنَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا إلَخْ) تَنْعَقِدُ هَذِهِ الْيَمِينُ عَلَى لَحْمِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْجَامُوسِ وَالْغَنَمِ وَالطُّيُورِ مَطْبُوخًا وَمَشْوِيًّا، وَفِي حِنْثِهِ بِالنِّيءِ خِلَافٌ الْأَظْهَرُ لَا يَحْنَثُ، وَعِنْدَ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ يَحْنَثُ، فَلَوْ أَكَلَ لَحْمَ السَّمَكِ لَا يَحْنَثُ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ وَهُوَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ سُمِّيَ لَحْمًا فِي الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى ﴿لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا﴾ أَيْ مِنْ الْبَحْرِ وَهُوَ السَّمَكُ، وَبِهِ اسْتَدَلَّ سُفْيَانُ لِمَنْ اسْتَفْتَاهُ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ سَمَكًا فَرَجَعَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ ارْجِعْ فَاسْأَلْهُ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى بِسَاطٍ فَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَا يَحْنَثُ، فَقَالَ أَلَيْسَ أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا﴾ فَقَالَ لَهُ سُفْيَانُ: كَأَنَّك السَّائِلُ الَّذِي سَأَلْتنِي أَمْسِ؟ فَقَالَ نَعَمْ، فَقَالَ سُفْيَانُ: لَا يَحْنَثُ فِي هَذَا وَلَا فِي الْأَوَّلِ، فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ.

وَظَهَرَ أَنَّ تَمَسُّكَ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّمَا هُوَ بِالْعُرْفِ لَا بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّسْمِيَةَ الَّتِي وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ مَجَازِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ لِأَنَّ اللَّحْمَ مُنْشَؤُهُ مِنْ الدَّمِ وَلَا دَمَ فِي السَّمَكِ لِسُكُونِهِ الْمَاءَ، وَلِذَا حَلَّ بِلَا ذَكَاةٍ. فَإِنَّهُ يُنْقَضُ بِالْأَلْيَةِ فَإِنَّهَا تَنْعَقِدُ مِنْ الدَّمِ، وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهَا لِمَكَانِ الْعُرْفِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى لَحْمًا وَلَا تَذْهَبُ أَوْهَامُ أَهْلِ الْعُرْفِ إلَيْهِ عِنْدَ إطْلَاقِ اسْمِ اللَّحْمِ، وَلِذَا لَوْ قَالَ اشْتَرِ لَحْمًا فَاشْتَرَى سَمَكًا عُدَّ مُخَالِفًا،

<<  <  ج: ص:  >  >>