تحديد أي شيء من الأشياء فإنه لا يزيد ذرة في وضوح معناه، بل لعله يخلق التباسا وبلبلة. فيجب علينا إذن أن نقول: إن الثقافة تشكل على أربعة فصول: فصل أخلاق، وفصل جمال، وفصل منطق عملي، وفصل علم.
على أننا لو تأملنا أخيراً في الموضوع، لوجدنا أن الترتيب بين هذه العناصر يختلف باختلاف الدوافع التي تدفع إلى العمل، وليس باختلاف الأصول النظرية والوسائل الفنية. وهذا يعني أن ذاتية الثقافة في نوعها تقوم على تقديم أو تأخير مبدأين اثنين منها: هما مبدأ الأخلاق ومبدأ الجمال. فالأولوية التي يمثلها أحد المبدأين في تركيب الثقافة يحدد ذاتيتها، كما يتحدد به اتجاه عام للحضارة التي تستند إلى تلك الثقافة. فلو حللنا على ضوء هذه الإعتبارات الإتجاه العام للحضارة المعاصرة، لعلمنا
أن دوافعها تصدر عن ذوق الجمال أكثر مما تصدر عن المبدأ الأخلاقي. وهذا يعني تقديماً وتأخيراً بين مبدأين أي ترتيبا ضمنيا لفصول الثقافة. ولعل هذا الترتب الذي حدد نوع الحضارة الغربية، يعود إلى عصر النهضة في أوربا. فمن المعلوم أن ذلك العهد قد نصب الجمال مثلا أعلى في أفق الثقافة الغربية. وهذا ما لاحظه تولستوي في كتابه (ما هو الفن) الذي يرى فيه أن فكرة الجمال بدأت تحتل المكان الأول في عصر النهضة، وأنها أستولت نهائيا على الشعور الغربي حوالي منتصف القرن الثامن عشر، عند ظهور دراسات (وينجهمان) التي تشير إلى أن المبدأ الأخلاقي قد اضمحل في الفن وسلم مكانه للجمال.
وإن هذه الإعتبارات لتدعونا إلى كثير من التأمل، في الوقت الذي بدأت فيه البلاد العربية الإسلامية تحدد نوع ثقافتها، في محيط من علاقاتها الثقافية مع البلاد المتحضرة بالحضارة العصرية. فإن التصرف الحكيم ينبغي ألا يفوتنا في مثل هذه الفترة، وذلك حتى لا يكون في البلاد حمامات للكلاب وفيها بعض الناس يموتون جوعاً، كما هو حاصل الآن في المجتمعات التي يستولي الجمال فيها على شعور القوم ويسيطر على ثقافتهم.