للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَجَدَّدَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ صَارَ تَرْكُهَا يُوجِبُ الْمُقَاطَعَةَ الْمُحَرَّمَةَ وَإِذَا تَعَارَضَ الْمَكْرُوهُ وَالْمُحَرَّمُ قُدِّمَ الْمُحَرَّمُ وَالْتُزِمَ دَفْعُهُ وَحَسْمُ مَادَّتِهِ، وَإِنْ وَقَعَ الْمُكْرَهُ هَذَا هُوَ قَاعِدَةُ الشَّرْعِ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ وَهَذَا التَّعَارُضُ مَا وَقَعَ إلَّا فِي زَمَانِنَا فَاخْتَصَّ الْحُكْمُ بِهِ وَمَا خَرَجَ عَنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ إمَّا مُحَرَّمٌ فَلَا تَجُوزُ الْمُوَادَّةُ بِهِ أَوْ مَكْرُوهٌ فَلَمْ يَحْصُلْ فِيهِ تَعَارُضٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَرَّمٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ نَهْيَ تَنْزِيهٍ قُلْت: فَيَنْقَسِمُ الْقِيَامُ إلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ مُحَرَّمٌ إنْ فُعِلَ تَعْظِيمًا لِمَنْ يُحِبُّهُ تَجَبُّرًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَمَكْرُوهٌ إذَا فُعِلَ تَعْظِيمًا لِمَنْ لَا يُحِبُّهُ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ فِعْلَ الْجَبَابِرَةِ وَيُوقِعُ فَسَادَ قَلْبِ الَّذِي يُقَامُ لَهُ، وَمُبَاحٌ إذَا فُعِلَ إجْلَالًا لِمَنْ لَا يُرِيدُهُ، وَمَنْدُوبٌ لِلْقَادِمِ مِنْ السَّفَرِ فَرَحًا بِقُدُومِهِ لِيُسَلِّمَ عَلَيْهِ أَوْ يَشْكُرَ إحْسَانَهُ أَوْ الْقَادِمِ الْمُصَابِ لِيُعَزِّيَهُ بِمُصِيبَتِهِ؛ وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ النَّاسُ أَوْ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» وَبَيَّنَ قِيَامَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ لَمَّا قَدِمَ مِنْ الْيَمَنِ فَرَحًا بِقُدُومِهِ، وَقِيَامِ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ لِيُهَنِّئَهُ بِتَوْبَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَيْهِ بِحُضُورِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَيْهِ ذَلِكَ فَكَانَ كَعْبٌ يَقُولُ: لَا أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ «وَكَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَكْرَهُ أَنْ يُقَامَ لَهُ» فَكَانُوا إذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لَهُ إجْلَالًا لِكَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ وَإِذَا قَامَ إلَى بَيْتِهِ لَمْ يَزَالُوا قِيَامًا حَتَّى يَدْخُلَ بَيْتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ تَعْظِيمِهِ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِكَرَاهَةِ ذَلِكَ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلْأَنْصَارِ «قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ» قِيلَ تَعْظِيمًا لَهُ، وَهُوَ لَا يُحِبُّ ذَلِكَ.

وَقِيلَ: لِيُعِينُوهُ عَلَى النُّزُولِ عَنْ الدَّابَّةِ قُلْت: وَالنَّهْيُ الْوَارِدُ عَنْ مَحَبَّةِ الْقِيَامِ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَنْ يُرِيدُ ذَلِكَ تَجَبُّرًا أَمَّا مَنْ أَرَادَهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ وَالنَّقِيصَةِ بِهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْهَى عَنْهُ؛ لِأَنَّ مَحَبَّةَ دَفْعِ الْأَسْبَابِ الْمُؤْلِمَةِ مَأْذُونٌ فِيهَا بِخِلَافِ التَّكَبُّرِ، وَمَنْ أَحَبَّ ذَلِكَ تَجَبُّرًا أَيْضًا لَا يُنْهَى عَنْ الْمَحَبَّةِ وَالْمَيْلِ لِذَلِكَ الطَّبِيعِيِّ بَلْ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَذِيَّةِ النَّاسِ إذَا لَمْ يَقُومُوا وَمُؤَاخَذَتِهِمْ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْأُمُورَ الْجِبِلِّيَّةَ لَا يُنْهَى عَنْهَا فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَشْرُوعِ مِنْ الْمُوَادَّةِ وَغَيْرِ الْمَشْرُوعِ

وَهَا هُنَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى)

الْمُصَافَحَةُ، وَفِي الْحَدِيثِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا تَلَاقَى الرَّجُلَانِ فَتَصَافَحَا تَحَاتَّتْ ذُنُوبُهُمَا، وَكَانَ أَقْرَبُهُمَا إلَى اللَّهِ أَكْثَرَهُمَا بِشْرًا» فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُصَافَحَةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الزَّمَانِ مِنْ الْمُصَافَحَةِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ بِدْعَةٌ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ، وَكَانَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ يَنْهَى عَنْهُ وَيُنْكِرُهُ عَلَى فَاعِلِهِ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ، وَلَا نَصَبٍ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا ذُنُوبَهُ» خِلَافًا لِمَا يَعْتَقِدُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ أَنَّهَا تَكُونُ سَبَبًا فِي ذَلِكَ وَمَا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مِنْ تَرْتِيبِهِ الْمَثُوبَاتِ عَلَى الْمَصَائِبِ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا صَبَرَ لَيْسَ إلَّا فَإِنَّهُ إنْ صَبَرَ اجْتَمَعَ لَهُ التَّكْفِيرُ وَالْأَجْرُ.

وَإِنْ تَسَخَّطَ فَقَدْ يَعُودُ الَّذِي تَكَفَّرَ بِالْمُصِيبَةِ بِمَا جَنَاهُ مِنْ السَّخَطِ أَوْ أَقَلُّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ فَقَوْلُهُ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ «لَا يَمُوتُ لِأَحَدِكُمْ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ إلَّا كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنْ النَّارِ قَالَتْ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاثْنَانِ قَالَ وَاثْنَانِ وَخِلْته لَوْ قُلْت لَهُ: وَوَاحِدٌ لَقَالَ: وَوَاحِدٌ» مَعْنَاهُ أَنَّ مُصِيبَةَ فَقْدِ الْوَلَدِ تُكَفِّرُ ذُنُوبًا كَانَ شَأْنَهَا أَنْ يَدْخُلَ بِهَا النَّارَ فَلَمَّا كَفَّرَتْ تِلْكَ الذُّنُوبَ بَطَلَ دُخُولُ النَّارِ بِسَبَبِهَا فَصَارَتْ الْمُصِيبَةُ كَالْحِجَابِ الْمَانِعِ مِنْ دُخُولِ النَّارِ مِنْ جِهَةِ مَجَازِ التَّشْبِيهِ ثُمَّ إنَّ تَكْفِيرَ مَوْتِ الْأَوْلَادِ وَنَحْوِهِمْ إنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ الْآلَامِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ فَقْدِ الْمَحْبُوبِ فَإِنْ كَثُرَ كَثُرَ التَّكْفِيرُ، وَإِنْ قَلَّ قَلَّ التَّكْفِيرُ فَلَا جَرَمَ يَكُونُ التَّكْفِيرُ عَلَى قَدْرِ نَفَاسَةِ الْوَلَدِ فِي صِفَاتِهِ أَوْ نَفَاسَتِهِ فِي بِرِّهِ وَأَحْوَالِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مَكْرُوهًا يُسَرُّ بِفَقْدِهِ فَلَا كَفَّارَةَ بِفَقْدِهِ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - التَّكْفِيرَ بِمَوْتِ الْأَوْلَادِ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ أَنَّهُ يُؤْلِمُ، قَالَ: فَظَهَرَ بِهَذِهِ التَّقَارِيرِ وَالْمَبَاحِثِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُكَفِّرَاتِ وَأَسْبَابِ الْمَثُوبَاتِ، وَعَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لِمُصَابٍ بِمَرَضٍ أَوْ فَقْدِ مَحْبُوبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ: جَعَلَ اللَّهُ لَك هَذِهِ الْمُصِيبَةَ كَفَّارَةً؛ لِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ قَطْعًا، وَالدُّعَاءُ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ قِلَّةُ أَدَبٍ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى، وَقَدْ بَسَطْت هَذَا فِي كِتَابِ الْمُنْجِيَاتِ وَالْمُوبِقَاتِ فِي الْأَدْعِيَةِ بَلْ يُقَالُ: اللَّهُمَّ عَظِّمْ لَهُ الْكَفَّارَةَ؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَهَا لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتُهُ بِخِلَافِ أَصْلِ التَّكْفِيرِ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ لَنَا بِالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَا يَجُوزُ طَلَبُهُ فَاعْلَمْ ذَلِكَ فِيهِ، وَفِي نَظَائِرِهِ هَذَا خُلَاصَةُ مَا قَالَهُ الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ.

وَاخْتَارَ ابْنُ الشَّاطِّ وَالْجُمْهُورُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ الطَّرِيقَةَ الثَّانِيَةَ، وَهِيَ أَنَّ رَفْعَ الدَّرَجَاتِ وَحُصُولَ الْمَثُوبَاتِ لَا يُشْتَرَطُ فِي أَسْبَابِهَا كَوْنُهَا مُكْتَسَبَةً، وَلَا مَأْمُورًا بِهَا، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُكَفِّرَاتِ بَلْ هِيَ نَوْعٌ مِنْهَا، وَأَنَّ تِلْكَ الْأَسْبَابَ نَوْعَانِ مَا يَكُونُ سَبَبُهُ غَيْرَ مُكْتَسَبٍ، وَلَا مَقْدُورٍ، وَمِنْ ذَلِكَ الْآلَامُ وَجَمِيعُ الْمَصَائِبِ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ: وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ دَلَائِلُ.

وَظَوَاهِرُ الشَّرْعِ مُتَظَاهِرَةٌ يُعَضِّدُهَا قَاعِدَةُ رُجْحَانِ جَانِبِ الْحَسَنَاتِ الْمَقْطُوعِ بِهَا اهـ وَقَدْ نَقَلَ الْعَلَّامَةُ الْجَمَلُ عَلَى الْجَلَالَيْنِ عَنْ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ كَالْكَرْخِيِّ أَنَّ مِنْ تِلْكَ الظَّوَاهِرِ أَنَّ أَوْلَادَ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِعَمَلِ آبَائِهِمْ كَمَا فِي آيَةِ {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} [الطور: ٢١]

<<  <  ج: ص:  >  >>