للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْأَلْفَاظُ إنَّمَا هِيَ وَسَائِلُ وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ مَقَاصِدُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَلْفَاظِ، وَالْمَقَاصِدُ أَفْضَلُ مِنْ الْوَسَائِلِ

(الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةَ عَشَرَ) التَّفْضِيلُ بِالتَّأْثِيرِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ:

أَحَدُهَا تَفْضِيلُ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ فَإِنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ فِي تَحْصِيلِ وُجُودِ الْمُمْكِنَاتِ وَالْعِلْمُ وَالْخَبَرُ تَابِعَانِ لَيْسَا بِمُؤَثِّرَيْنِ وَكَذَلِكَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ مِنْ قَبِيلِ الْعِلْمِ وَمَا لَهُ التَّأْثِيرُ أَفْضَلُ مِمَّا لَا تَأْثِيرَ لَهُ.

وَثَانِيهَا تَفْضِيلُ الْإِرَادَةِ عَلَى الْحَيَاةِ فَإِنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ لِلتَّخْصِيصِ فِي الْمُمْكِنَاتِ بِزَمَانِهَا وَصِفَاتِهَا الْجَائِزَةِ عَلَيْهَا، وَالْحَيَاةُ لَا تُؤَثِّرُ إيجَادًا وَلَا تَخْصِيصًا وَلَيْسَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ السَّبْعَةِ مُؤَثِّرٌ إلَّا الْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ فَقَطْ.

وَثَالِثُهَا تَفْضِيلُ صَاحِبِ الشَّرْعِ الْحَيَاءَ عَلَى ضِدِّهِ وَهُوَ الْقِحَةُ فَقَالَ الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إلَّا بِخَيْرٍ الْحَيَاءُ مِنْ الْإِيمَانِ بِسَبَبِ أَنَّ الْحَيَاءَ يُؤَثِّرُ الْحَثَّ عَلَى الْخَيْرَاتِ وَالزَّجْرَ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ، وَالِقْحَةَ لَا يَنْزَجِرُ صَاحِبُهَا عَنْ مَكْرُوهٍ وَلَا تَحُثُّهُ عَلَى مَعْرُوفٍ وَلِذَلِكَ فَضَّلَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ الشَّجَاعَةَ عَلَى الْجُبْنِ بِسَبَبِ أَنَّ الشَّجَاعَةَ تَحُثُّ عَلَى دَرْءِ الْأَعْدَاءِ وَنَصْرِ الْجَارِ وَدَفْعِ الْعَارِ، وَالْجُبْنَ لَا يَأْتِي مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ فَضَّلَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ السَّخَاءَ عَلَى الْبُخْلِ لِكَوْنِهِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَجَلْبِ الْقُلُوبِ كَمَا وَرَدَ الْكَرِيمُ حَبِيبُ اللَّهِ؛ لِأَنَّ السَّخَاءَ يُؤَثِّرُ الْحَنَانَةَ، وَالشَّفَقَةَ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَالْبُخْلُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ طِبَاعِ اللِّئَامِ

(الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةَ عَشَرَ) التَّفْضِيلُ بِجَوْدَةِ الْبِنْيَةِ وَالتَّرْكِيبِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ:

أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - عَلَى الْجَانِّ بِسَبَبِ جَوْدَةِ أَبْنِيَتِهِمْ وَحُسْنِ تَرْكِيبِهِمْ فَإِنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ نُورٍ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

قَالَ: (الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةَ عَشَرَ التَّفْضِيلُ بِالتَّأْثِيرِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ أَحَدُهَا تَفْضِيلُ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ) .

قُلْت: فِيمَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ نَظَرٌ.

قَالَ: (الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةَ عَشَرَ التَّفْضِيلُ بِجَوْدَةِ الْبِنْيَةِ وَالتَّرْكِيبِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - عَلَى الْجَانِّ بِسَبَبِ جَوْدَةِ أَبْنِيَتِهِمْ وَحُسْنِ تَرْكِيبِهِمْ)

قُلْت مَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ بَنَى جَمِيعَ قَوْلِهِ فِيهَا عَلَى نِسْبَةِ تِلْكَ الْآثَارِ

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

الْحَقُّ أَنْ لَا تَأْثِيرَ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ الرَّبْطَ بَيْنَ السَّبَبِ كَالنَّظَرِ الصَّحِيحِ وَمُسَبَّبِهِ كَالنَّتِيجَةِ إمَّا بِطَرِيقِ اللُّزُومِ الْعَقْلِيِّ كَالتَّلَازُمِ بَيْنَ الْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ فَوُجُودُ أَحَدِهِمَا بِدُونِ الْآخَرِ مُسْتَحِيلٌ عَقْلِيٌّ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ بَلْ أَنْ يُوجَدَا مَعًا، أَوْ يُعْدَمَا مَعًا وَقِيلَ: عَادِيٌّ يَقْبَلُ التَّخَلُّفَ كَالْإِحْرَاقِ عِنْدَ مَسِّ النَّارِ فَقَدْ تَخَلَّفَ فِي نَحْوِ إبْرَاهِيمَ وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِالتَّوَلُّدِ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي الضَّرْبِ النَّاشِئِ عَنْهُ الْقَطْعُ، وَالتَّوَلُّدُ أَنْ يُوجِبَ الْفِعْلُ لِفَاعِلِهِ شَيْئًا آخَرَ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الْعَلَّامَةِ الْأَمِيرِ عَلَى عَبْدِ السَّلَامِ فَتَأَمَّلْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ) التَّفْضِيلُ بِجَوْدَةِ الْبِنْيَةِ وَالتَّرْكِيبِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ.

أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - عَلَى الْجَانِّ بِسَبَبِ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ مِنْ جَوْدَةِ الْبِنْيَةِ وَحُسْنِ التَّرْكِيبِ فَإِنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ نُورٍ وَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِمْ سُرْعَةَ السَّيْرِ وَوُفُورَ الْقُوَّةِ بِحَيْثُ إنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَسِيرُ مِنْ الْعَرْشِ إلَى الْفَرْشِ سَبْعَةَ آلَافِ سَنَةٍ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَحْمِلُ مَدَائِنَ لُوطٍ الْخَمْسَةَ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ عَلَى جَنَاحِهِ لَا يَضْطَرِبُ مِنْهَا شَيْءٌ بَلْ يَقْلَعُهَا مِنْ تَحْتِهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَيَصْعَدُ بِهَا إلَى الْجَوِّ، ثُمَّ يَقْلِبُهَا وَبِحَيْثُ إنَّ الْمَلَكَ الْوَاحِدَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ يَقْهَرُ الْجَمْعَ الْعَظِيمَ مِنْ الْجَانِّ وَلِذَلِكَ سَأَلَ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَبَّهُ تَعَالَى أَنْ يُوَلِّيَ عَلَى الْجَانِّ الْمَلَائِكَةَ فَفَعَلَ لَهُ ذَلِكَ فَهُمْ الزَّاجِرُونَ لَهُمْ الْيَوْمَ عِنْدَ الْعَزَائِمِ وَغَيْرِهَا الَّتِي يَتَعَاطَاهَا أَهْلُ الْعِلْمِ فَيُقْسِمُونَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي تُعَظِّمُهَا الْمَلَائِكَةُ فَتَفْعَلُ فِي الْجَانِّ مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ الْإِقْسَامِ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ الْمُعَظَّمَةِ وَكَانُوا قَبْلَ زَمَنِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُخَالِطُونَ النَّاسَ فِي الْأَسْوَاقِ وَيَعْبَثُونَ بِهِمْ عَبَثًا شَدِيدًا فَلَمَّا رَتَّبَ سُلَيْمَانُ هَذَا التَّرْتِيبَ وَسَأَلَهُ مِنْ رَبِّهِ انْحَازُوا إلَى الْفَلَوَاتِ وَالْخَرَابِ مِنْ الْأَرْضِ فَقَلَّتْ أَذِيَّتُهُمْ وَالْمَلَائِكَةُ تُرَاقِبُهُمْ فِي ذَلِكَ فَمَنْ عَبِثَ مِنْهُمْ وَعَثَا رَدُّوهُ، أَوْ قَتَلُوهُ كَمَا يَفْعَلُ وُلَاةُ بَنِي آدَمَ مَعَ سُفَهَائِهِمْ، وَتَفْضِيلُهُمْ عَلَى الْجَانِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُضَافُ لِبَقِيَّةِ الْوُجُوهِ وَعَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ مِنْ التَّفْضِيلِ تُحْمَلُ النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ إذَا احْتَمَلَ النَّصُّ ذَلِكَ؛ إذْ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ أَبْنِيَةَ بَنِي آدَمَ خَسِيسَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَبْنِيَةِ الْمَلَائِكَةِ فَلَا تُعَارِضُ مَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ أَنَّ الْبَشَرَ أَفْضَلُ عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ لِأُمُورٍ.

أَحَدُهَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ عَقْلٌ مَحْضٌ وَالْبَهَائِمَ شَهْوَةٌ مَحْضَةٌ وَالْإِنْسَانَ مُرَكَّبٌ مِنْهُمَا فَكَمَا أَنَّ غَلَبَةَ الشَّهْوَةِ تُنَزِّلُ الْإِنْسَانَ عَنْ الْبَهَائِمِ بِعُذْرِهَا بِالْعَدَمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: ١٧٩] كَذَلِكَ غَلَبَةُ الْعَقْلِ تَرْفَعُهُ عَنْ الْمَلَائِكَةِ؛ إذْ وُجُودُ الشَّهَوَاتِ مَعَ قَمْعِهَا أَتَمُّ مِنْ بَابِ " أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ أَحْمَزُهَا بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ فَزَايٍ أَيْ أَشَقُّهَا ".

الْأَمْرُ الثَّانِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعَ قُدْرَتِهِمْ عَلَى التَّشَكُّلِ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ لِلَطَافَةِ أَجْسَامِهِمْ النُّورَانِيَّةِ لَا يَتَشَكَّلُونَ فِي صُوَرِ بَعْضِهِمْ فَلَا يَتَشَكَّلُ جِبْرِيلُ بِصُورَةِ مِيكَائِيلَ وَلَا الْعَكْسُ بِخِلَافِ أَوْلِيَاءِ الْبَشَرِ فَيُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ كَمَا فِي الْيَوَاقِيتِ عَنْ ابْنِ الْعَرَبِيِّ.

الْأَمْرُ الثَّالِثُ أَنَّ فِي الْيَوَاقِيتِ عَنْ الشَّيْخِ الْأَكْبَرِ أَنَّ مَقَامَ «لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ» الْحَدِيثَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الْبَشَرِ، وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَكُلُّ طَاعَاتِهِمْ مُحَتَّمَةٌ عَلَيْهِمْ فَلَا يَفْرُغُونَ مِنْ تَوْظِيفٍ حَتَّى يُمْكِنَهُمْ التَّطَوُّعُ نَعَمْ قَالَ السَّعْدُ لَا قَاطِعَ فِي هَذِهِ الْمَقَامَاتِ كَذَا يُؤْخَذُ مِنْ الْأَمِيرِ عَلَى عَبْدِ السَّلَامِ عَلَى الْجَوْهَرَةِ

وَثَانِيهَا تَفْضِيلُ

<<  <  ج: ص:  >  >>