الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ)
قَالَ الْعَبْدَلِيُّ لَا تَتَعَيَّنُ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ إلَّا فِي مَسْأَلَتَيْنِ الصَّرْفِ وَالْكِرَاءِ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْوَلِيدِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ النَّقْدَانِ يَتَعَيَّنَانِ بِالتَّعْيِينِ فِي الصَّرْفِ عِنْدَ مَالِكٍ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ وَإِنْ لَمْ تُعَيَّنْ تَعَيَّنَتْ بِالْقَبْضِ وَبِالْمُفَارَقَةِ وَلِذَلِكَ جَازَ الرِّضَى بِالزَّائِفِ فِي الصَّرْفِ.
وَقَالَ سَنَدٌ فِي الطِّرَازِ إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ النَّقْدَانِ فَالْعَقْدُ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ التَّسْلِيمَ فَإِذَا قُبِضَ فِي الصَّرْفِ رَدِيئًا، وَقَدْ افْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ فَيَفْسُدُ فَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّ الْقَبْضَ يُبْرِئُ الذِّمَّةَ وَتَعَيَّنَ صَحَّ الْعَقْدُ وَالطَّارِئُ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتِحْقَاقٌ أَوْ عَيْبٌ أَوْ حُكْمٌ مُتَجَدِّدٌ لِنَفْيِ الظُّلَامَةِ كَعَقْدِ النِّكَاحِ مُبْرَمٌ مُفِيدٌ لِلْمِيرَاثِ وَحِلِّ الْوَطْءِ، وَإِذَا ظَهَرَ بَعْدَ الْمَوْتِ عَيْبٌ بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ يُوجِبُ الرَّدَّ فَإِذَا رَضِيَ بِالْعَيْبِ بَقِيَ الْعَقْدُ عَلَى حَالِهِ وَإِنْ كَرِهَ الْآخَرُ وَإِنْ أَرَادَ الْبَدَلَ مَنَعَهُ مَالِكٌ إلَّا أَنْ يُدَلِّسَ بَائِعُهُ وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ وَاعْلَمْ أَنَّ اسْتِثْنَاءَ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ يُحْوِجُ إلَى ذِكْرِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْمَسَائِلِ أَمَّا الصَّرْفُ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّمَا قَالَ فِيهِ مَالِكٌ بِالتَّعْيِينِ فَلِضِيقِ بَابِهِ وَأَمَرَ الشَّرْعُ بِسُرْعَةِ الْقَبْضِ نَاجِزًا لِلتَّعْيِينِ وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِلتَّضْيِيقِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ يُحَصِّلُ مَقْصُودَ الْقَبْضِ نَاجِزًا بِخِلَافِ إذَا قُلْنَا إنَّ الصَّرْفَ إنَّمَا وَرَدَ عَلَى الذِّمَّةِ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَبْضُ مُبْرِئًا لِمَا فِي الذِّمَّةِ إنْ كَانَ مُوَافِقًا وَأَنْ لَا يَكُونَ فَبِالتَّعْيِينِ يَحْصُلُ الْجَزْمُ بِالْقَبْضِ وَالتَّنَاجُزِ.
وَأَمَّا الْكِرَاءُ فَيَصْعُبُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَغَايَتُهُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ إنَّ الْكِرَاءَ يَرِدُ عَلَى الْمَنَافِعِ الْمَعْدُومَةِ فَلَوْ كَانَ النَّقْدَانِ لَا يَتَعَيَّنَانِ لَكَانَ الْكِرَاءُ أَيْضًا فِي الذِّمَّةِ فَيُشْبِهُ بَيْعَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَهُوَ حَرَامٌ بِخِلَافِ جَمِيعِ الْأَعْيَانِ فَإِنَّهَا تَتَعَيَّنُ غَيْرَ أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ يُشْكِلُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْكِرَاءُ عَلَى الذِّمَّةِ تَصْرِيحًا وَيُعَيِّنُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَيُطْلَبُ لَهُ فَرْقٌ يَلِيقُ بِهِ (الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ)
إذَا جَرَى غَيْرُ النَّقْدَيْنِ مَجْرَاهُمَا فِي الْمُعَامَلَةِ كَالْفُلُوسِ أَوْ غَيْرِهَا قَالَ سَنَدٌ مَنْ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إلَى آخِرِهَا) قُلْت الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى عَدَمِ تَعْيِينِ النَّقْدَيْنِ بِالتَّعْيِينِ فَلِذَلِكَ أُشْكِلَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَسْأَلَتَيْ الصَّرْفِ وَالْكِرَاءِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ الْأَصْلَ غَيْرُ صَحِيحٍ فَلَا إشْكَالَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ (الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إلَى آخِرِهَا) قُلْت قَوْلُ أَشْهَبَ فِي سُكْنَى الدَّارِ الْمَأْخُوذَةِ فِي الدَّيْنِ أَوْجُهٌ كَمَا قَالَ الشِّهَابُ وَمَا قَالَهُ فِي بَيْعِ الْغَائِبِ أَنَّهُ أَخَذَ شَبَهًا مِمَّا فِي الذِّمَّةِ ضَعِيفٌ، بَلْ هُوَ مُعَيَّنٌ، وَأَمَّا كَوْنُ ضَمَانِهِ مِنْ الْبَائِعِ أَوْ مِنْ الْمُبْتَاعِ فَلِأُمُورٍ غَيْرِ كَوْنِهِ مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمَا قَالَهُ فِي الْفُرُوقِ السِّتَّةِ بَعْدَهُ صَحِيحٌ كُلُّهُ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ.
بَلْ ذَكَرَ تِلْكَ الْأَصْنَافَ كُلَّهَا عُلِمَ أَنَّهُ قَصَدَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا التَّنْبِيهَ عَلَى مَا فِي مَعْنَاهُ فَنَبَّهَ بِالْبُرِّ عَلَى قُوتِ الرَّفَاهِيَةِ وَبِالشَّعِيرِ عَلَى قُوتِ الشِّدَّةِ مِنْ أَصْنَافِ الْحُبُوبِ الْمُدَّخَرَةِ وَبِالتَّمْرِ عَلَى الْمُقْتَاتِ مِنْ الْحَلَاوَاتِ الْمُدَّخَرَةِ كَالزَّبِيبِ وَالْعَسَلِ وَالسُّكَّرِ وَبِالْمِلْحِ عَلَى مَصَالِحِ الْأَقْوَاتِ مِنْ جَمِيعِ التَّوَابِلِ الْمُدَّخَرَةِ لِإِصْلَاحِ الطَّعَامِ وَأَنَّهُ قَصَدَ مَا يَجْمَعُهَا مِنْ الِاقْتِيَاتِ وَالِادِّخَارِ لَا الطَّعْمُ وَحْدَهُ فَلِذَا زَادَ مَالِكٌ عَلَى الطَّعْمِ صِفَةً وَاحِدَةً وَهُوَ الِادِّخَارُ كَمَا فِي الْمُوَطَّإِ أَوْ صِنْفَيْنِ وَهُمَا الِادِّخَارُ وَالِاقْتِيَاتُ كَمَا فِي غَيْرِهِ وَاخْتَارَهُ جَمِيعُ الْبَغْدَادِيِّينَ
(وَأَمَّا رَابِعُهَا) فَلِأَنَّ الشَّرَفَ لَمَّا كَانَ يَقْتَضِي كَثْرَةَ الشُّرُوطِ وَتَمْيِيزَهُ عَلَى الْخَسِيسِ أَلَا تَرَى تَمْيِيزَ النِّكَاحِ عَنْ مِلْكِ الْيَمِينِ بِالشُّرُوطِ كَالْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ وَالصَّدَاقِ وَالْإِعْلَانِ وَإِنَّ الْمُلُوكَ لَا تَكْثُرُ الْحُرَّاسُ إلَّا عَلَى الْخَزَائِنِ النَّفِيسَةِ فَكُلَّمَا عَظُمَ شَرَفُ الشَّيْءِ عَظُمَ خَطَرُهُ عَقْلًا وَشَرْعًا وَعَادَةً وَكَانَ لِلطَّعَامِ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ وَلِلْمُقْتَاتِ مِنْهُ شَرَفٌ عَلَى غَيْرِ الْمُقْتَاتِ لِعِظَمِ مَصْلَحَتِهِ فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ إذْ هُوَ سَبَبُ بَقَاءِ الْأَبْنِيَةِ الشَّرِيفَةِ لِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ طُولِ الْأَزْمَانِ نَاسَبَ ذَلِكَ لِلصَّوْنِ عَنْ الضَّيَاعِ بِأَنْ لَا يُبْذَلَ الْكَثِيرُ بِالْقَلِيلِ فَيَضِيعُ الزَّائِدُ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَإِنَّمَا جَازَ التَّفَاضُلُ فِي الْجِنْسَيْنِ وَإِهْدَارُ الزَّائِدِ لِمَكَانِ الْحَاجَةِ فِي تَحْصِيلِ الْمَفْقُودِ وَامْتَنَعَ النَّسَاءُ إظْهَارًا لِشَرَفِ الطَّعَامِ
(وَأَمَّا خَامِسُهَا) فَلِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْكَيْلِ وَإِنْ كَانَ طَرْدِيًّا إلَّا أَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ الْمُنَاسِبُ نَعَمْ قَالَ الْحَفِيدُ فِي الْبِدَايَةِ إذَا تُؤُمِّلَ الْأَمْرُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى ظَهَرَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ عِلَّةَ الْحَنَفِيَّةِ أَوْلَى الْعِلَلِ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَظْهَرُ مِنْ الشَّرْعِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا إنَّمَا هُوَ لِمَكَانِ الْغَبْنِ الْكَثِيرِ الَّذِي فِيهِ وَأَنَّ الْعَدْلَ فِي الْمُعَامَلَاتِ إنَّمَا هُوَ مُقَارَبَةُ التَّسَاوِي وَلِذَلِكَ لَمَّا عَسُرَ إدْرَاكُ التَّسَاوِي فِي الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ الذَّوَاتِ جَعَلَ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ لِتَقْوِيمِهَا أَعْنِي تَقْدِيرَهَا وَلَمَّا كَانَتْ الْأَشْيَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ الذَّوَاتِ أَعْنِي غَيْرَ الْمَوْزُونَةِ وَالْمَكِيلَةِ الْعَدْلِ فِيهَا إنَّمَا هُوَ فِي وُجُودِ النِّسْبَةِ أَعْنِي أَنْ تَكُونَ نِسْبَةُ قِيمَةِ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ إلَى جِنْسِهِ نِسْبَةَ قِيمَةِ الشَّيْءِ الْآخَرِ إلَى جِنْسِهِ مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَدْلَ فِيمَا إذَا بَاعَ إنْسَانٌ فَرَسًا بِثِيَابٍ هُوَ أَنْ تَكُونَ نِسْبَةُ قِيمَةِ ذَلِكَ الْفَرَسِ إلَى الْأَفْرَاسِ هِيَ نِسْبَةُ قِيمَةِ ذَلِكَ الثَّوْبِ إلَى الثِّيَابِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْفَرَسُ قِيمَته خَمْسُونَ فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الثِّيَابُ قِيمَتُهَا خَمْسُونَ فَلْيَكُنْ مَثَلًا الَّذِي يُسَاوِي هَذَا الْقَدْرَ عَدَدُهَا وَهُوَ عَشَرَةُ أَثْوَابٍ فَحِينَئِذٍ اخْتِلَافُ الْمَبِيعَاتِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فِي الْعَدَدِ وَاجِبٌ فِي الْمُعَامَلَةِ الْعِدْلَةِ أَعْنِي أَنْ يَكُونَ عَدِيلُ فَرَسٍ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ فِي الْمِثْلِ وَالْأَشْيَاءُ الْمَكِيلَةُ وَالْمَوْزُونَةُ لَمَّا كَانَتْ لَا تَخْتَلِفُ كُلَّ الِاخْتِلَافِ وَكَانَتْ مَنَافِعُهَا مُتَقَارِبَةً وَلَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ ضَرُورِيَّةٌ