للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الوجه الثَّاني: أنَّ هذه التَّأويلات قَدْحٌ في تبليغِ النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه مِن المُتقرَّر شرعًا وعقلًا أنَّ مَن أراد النُّصحَ والبيانَ لأحدٍ مِن الخلق، فإنَّه لابدَّ أن يَعمَد إلى أقربِ الطُّرقِ للإفهام، ويَتخيَّر مِن الألفاظِ ما تحصل به الإبانة، وتقع به النَّصيحة، فإنْ تَحاشى مُريد النَّصيحةِ هذا السَّبيل بأنْ عَمد إلى الإبهام، مع الحاجة إلى البيان: استدلَّ النَّاظر في حال هذا المتنكِّب عن هذا السَّبيل على أنَّه: جاهلٌ عاجزٌ عن الإبانة، أو قاصدٌ لتضليل المُخاطَب، وإيقاعِه في الحِيرة!

ولا ريب أنَّ المُتأوِّلين لأحاديثِ الدَّجالِ ونحوها على خلاف الظَّاهر المُتبادر منها، وإن لم يَتَقصَّدوا أحدَ هذين الاحتمالين: فإنَّهم واقعون في وصفِ الرَّسول صلى الله عليه وسلم بأحدِهما لزومًا.

الوجه الثَّالث: أنَّ حملَ هذه الأحاديث الدَّالة على تشخُّصِ الدَّجال، وخروجِه على الرَّمز والتَّخييل، بلا قرينة توجب ذلك: هو عدولٌ عن الظَّاهرِ المُتبادَر بلا ضرورة عقليَّة ولا شرعيَّة تستدعيه.

وطَرْقُ بابِ التَّأويل لأدنى إشكالٍ يَنقدح في عقل النَّاظر في مثل هذه الأحاديث، يَبعثُ على فتحِ البابِ على مصراعَيْه لتأويلِ أحرفِ الشَّريعة كلِّها، فلا يُوثَق بعدُ بخَبرٍ، ولا ينعقد القلب على دينٍ؛ وهذا هو الانحلال بعينِه، وهَدْم الشَّريعة وتَقْويضها (١).

وأمَّا المعارض الخامس: في دعوى المخالفِ تناقضَ أحاديث الدَّجال في تحديدِ شخصِه، أو في زمانِ خروجِه ومكانِه، أو في خوارِقه الَّتي تكون معه؛ فإنَّا نبيِّن زيفَ دعاوي التَّناقض هذه كلًّا على حِدة:

فأمَّا دعواه أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يشكُّ في ابن صيَّاد هل هو الدَّجال أم لا، مع أنَّه وَصَف الدَّجال بصفاتٍ لا تنطبق على ابن صيَّاد: فالحقُّ أنَّ الاختلافَ في ابنِ الصَّياد (٢) لا يُنكَر وقوعه بين العلماء، «وأشكلَ أمرُه، حتَّى قيل فيه كلُّ مَقيل» (٣).


(١) «دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/٤٥٠ - ٤٥٢).
(٢) اسمه: صاف، وقيل: عبد الله، ويكنى أبا يوسف، وهو شاب من يهود المدينة، انظر «التذكرة» للقرطبي (ص/١٣١٧).
(٣) «معالم السنن» للخطابي (٤/ ٣٤٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>