للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويبقى أنَّ في حديث حذيفة ذِكر العَظم واللَّحم، وأنَّ التَّصوير والتَّخليق مُقارِنانِ للكتابة، ولن يكون التَّلحيم والتَّخليق مرَّتين بداهةً! (١)

هذا مع استصحاب خبرِ القرآن الكريم في مُوالاةِ خلقِ العِظام لطَورِ المُضغة مباشرةً، في قوله تعالى: {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً} [المؤمنون: ١٤]، وخلقُ العِظام إنَّما هو ثابت في حديث حذيفة رضي الله عنه بعد اثنين وأربعين يومًا، فلازم ذلك أنَّ تكون نشأة المُضغةِ قبلَه في تلك الأربعين الأولى، وليس في الثَّالثة (٢).

وهذا عينُه ما يؤكِّده الطِّب التَّشريحي الحديث (٣)، كما قد أشرنا إليه سابقًا.

وإنَّما تأتي الشُّبهة هنا على البعض حين يسمع روايةَ حذيفة: «إذا مَرَّ بالنُّطفة ثِنتان وأربعون ليلةً، بَعثَ الله إليها مَلَكًا .. » الحديث، فيتبادر إلى فهمِه منها أنَّ النُّطفة استغرقت مدَّة الأربعين كلَّها وزيادة، فكيف يكون التَّصوير بعدها مباشرةً وليست هي بمُضغة بعدُ؟!

وعلى ذلك استشكل القاضي عياض ما قرَّرناه مِن المُراد بالحديث، فقال: «التَّصوير بإثرِ النُّطفة، وأوَّلِ العَلقة، وفي الأربعينِ الثاَّنية: غير مَوجود، ولا مَعهود!» (٤)؛ فدعاه هذا إلى تأويلِ التَّصوير في هذه الرِّواية بـ (التَّقدير).

والأمرُ على خلاف ما ظنَّ، فليس في الحديث أنَّ جُرمَ النُّطفة نفسِها تبقى على حالهِا هذه المُدَّة كلَّها، وإنَّما في الكلام طَيًّا لأشياء مَعلومة في الذِهن، وهو


(١) وتأويل ابن الصَّلاح وبعده ابن تيمية وابن القيِّم لقولِه في حديث حذيفة هذا: «فصَوَّرها» على معنى التَّصوير العلميِّ التَّقديري، أي: فصوَّرها قولًا وكِتابًا لا فِعلًا، فأراه ضربًا من التَّكلُّف مخالفا لظاهر معنى اللَّفظ، وإلَّا فما يقولون في صريحِ قوله بعدها: «فخَلَق سمعَها، وبصرَها، وجلدَها، ولحمَها، وعظامَها»؟! فهذا يأبى هذا التَّأويل.
(٢) وفي هذا الدَّليل إبطالٌ لِما نقَلَه ابن رجب في «جامع العلوم والحكم» (١/ ١٥٨) عن بعض العلماء حملَهم حديثَ ابن مسعود: على أنَّ الجنين يغلب عليه في الأربعين الأولى وصف المنِّي، وفي الأربعين الثَّانية وصف العَلقة، وفي الأربعين الثَّالثة وصف المضغة، وإن كانت خِلْقَته قد تمَّت وتَمَّ تصويره!
(٣) انظر «نموُّ الإنسان، مِن مرحلة الجنين إلى مرحلة المسنِّين» لآمال صادق، وفؤاد أبو حطب (ص/٥١).
(٤) «إكمال المعلم» (٨/ ١٢٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>