للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأوَّل: «إنَّ أحدكم يُجمَع خَلْقُه في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا .. »، فكأنَّها شارِحة ومفصِّلةٌ له.

فليس المُراد -إذن- أنَّ جُمْلَتي العَلَقة والمُضغة تلحقانِ الجملةَ الأولى في الزَّمن، ولا أنَّهما من باب عطفِ المُغايرةٍ ولا تمييزًا بين المَراحل، بل هذا النَّسق في الخِطاب مَحمَله على أنَّه مِن ترتيبِ الأخبار، لا مِن ترتيبِ المُخبَر به في نفسِه، «وذلك جائز مَوجودٌ في القرآنِ والحديث الصَّحيح وغيره مِن لغةِ العَرب» (١).

بيانُ ذلك: أنَّ حرف العطفِ (ثمَّ) وإن كان يأتي في الأصلِ لتَرتيب الأخبارِ مع التَّراخي، فإنَّه يُستعمل في كلامِ العرب لغيرِ معنى التَّرتيب أيضًا إن أفهَمَت قرينةٌ ذلك.

شاهد هذا التَّخريجِ مِن أفصحِ الكلامِ:

قولُ ربِّنا تبارك وتعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} [السجدة: ٧ - ٩]، «فالمُراد هنا بالإنسانِ: آدم عليه السلام، ومَعلومٌ أنَّ تسويَتَه، ونفْخَ الرُّوح فيه، كان قبل جعلِ نسلِه مِن سُلالةٍ من ماءٍ مَهين، لكنْ لمَّا كان المقصود ذكرَه قدرةَ الله عز وجل في مبدأِ خلقِ آدم وخلقِ نسلِه، عَطَف ذِكرَ أحدهِما على الآخر، وأخَّرَ ذِكرَ تسويةِ آدمَ ونفْخَ الرُّوح فيه، وإن كان ذلك مُتوسِّطًا بين خلقِ آدم مِن طينٍ، وبين خلقِ نسلِه» (٢).

فهذا المِثال القرآنيُّ في صَرفِ حروفِ (ثمَّ) عن ظاهِرها، هو عينُ المُراد من أسلوبِ التَّعبيرِ في حديث ابن مسعود! وهو المُتعيِّن في تفسيرِه، وذلك لكي:

يَتوافقَ مع حديثِ حذيفة الصَّريحِ في الدَّلالة على اجتماع الأطوار الثَّلاثة في الأربعين الأولى؛ هذا مِن جِهة.


(١) انظر «شرح النَّووي على مسلم» (١٦/ ١٩١)، و «فتح الباري» لابن حجر (١١/ ٤٨٥).
(٢) «جامع العلوم والحكم» (١/ ١٦٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>