للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلأجل أنَّهم اشتهروا بهذا الشُحِّ في ادِّخار الأطعمة، كانت العربُ تُسميهم «الخُنَّاز»! (١).

فصحَّ بذا أن يُقال عنهم: إنَّه لولاهم لما فَسَد اللَّحم والطَّعام، بمعنى: أنَّه لولا إشاعتهم هذه الطريقةَ الجشِعةَ في الادِّخار، لمَا شاعَ فسادُها بسببِه، فإنَّ هذا الفعلَ لم يكن معروفًا في النَّاس قبلهم، فـ «الحديث شبيهٌ بأن نقول: لولا الفِرنج لمَا طارَ العراقيُّون والحجازيُّون والمصريُّون بالطيَّارات، ولما تخاطبوا وبينهم المسافات الَّتي تهلك فيها الأشواط والأصوات.

ولا تلازم في هذا بين الأوَّل والثَّاني إلَّا اختراع الأوَّل ما تمكَّن به الثَّاني أن يفعل، وهو تلازم عاديٌّ لا عقليٌّ، وكذلك لا تلازم بين بني إسرائيل وإخناز اللَّحم، إلَّا اختراعهم ما به تمكَّن اللَّحم مِن أن يخنَز، وهو ادِّخاره» (٢).

وعلى هذا؛ تكون الأوَّلية في الحديث أوَّليةَ إشاعةٍ لسُنَّةِ الادِّخار، المُفضي إلى الإفسادِ، لا أوَّليَّةَ فسادِ اللَّحم نفسِه مِن حيث هو لحمٌ كما ظنَّه المُعترض.

والَّذي يعضُد هذا التَّفسير للحديث ويجعله مَقبولًا: قضيَّةٌ لغويَّة مهمَّة، حين غَفل عن تحريرِها الطَّاعنون العَجَلَة، سَقطوا في سَوْءةٍ منهجيَّة:

ذلك أنَّهم فهموا لفظَ (الخَنز) على عمومِه الدَّارج في بعض كُتب اللُّغة، ولم يتحقَّقوا معناه الخاصِّ الَّذي يُميِّزه عن مجرَّد معنى الإنتانِ والفساد.

فإنَّ معنى لفظ «خَنَز» على وجهِ التَّدقيق: ما فَسَد بسببِ الادِّخارِ والخَزنِ خاصَّة، وليس مُطلق فسادِ الطَّعام! فإنَّ أصلَه مِن الفعل اللَّازم غير المُتعدِّي «خَزَن» بتقديم الزَّاي، وبتأخيرها «خَنَز»، وهما بمعنًى واحد، وهو من القلب المعروفِ في اللُّغة (٣).


(١) كما تذكره كتب المعاجم القديمة، انظر «تهذيب اللغة» (٧/ ٩٦)، و «لسان العرب» (٥/ ٣٤٦).
(٢) «مشكلات الأحاديث النبوية وبيانها» (ص/١٤).
(٣) انظر «المُزهر» للسيوطي (١/ ٣٦٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>