٦٣٣٩ - فَحَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْبَهَانِيُّ، ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْجَهْمِ، ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَرَجِ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِي مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: أَرْسَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى الْحُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ يَدْعُوهُ إِلَى الْبِرَازِ، فَقَالَ الْحُصَيْنُ: لَا يَمْنَعُنِي مِنْ لِقَائِكَ جُبْنٌ، وَلَسْتُ أَدْرِي لِمَنْ يَكُونُ الظَّفَرُ، فَإِنْ كَانَ لَكَ كُنْتَ قَدْ ضَيَّعْتَ مَنْ وَرَائِي، وَإِنْ كَانَ لِي كُنْتُ قَدْ أَخْطَأْتُ التَّدْبِيرَ، وَإِنْ طُفْتَ رَجَعْنَا إِلَى بَاقِي الْحَدِيثِ، وَضَرَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فُسْطَاطًا فِي الْمَسْجِدِ فَكَانَ فِيهِ نِسَاءٌ يَسْقِينَ الْجَرْحَى وَيُدَاوِيهِنَّ وَيُطْعِمْنَ الْجَائِعَ، وَيَلُمُنَّ النَّهْدَ الْمَجْرُوحَ، فَقَالَ حُصَيْنٌ: مَا يَزَالُ يَخْرُجُ عَلَيْنَا مِنْ ذَلِكَ الْفُسْطَاطِ أَسَدٌ كَأَنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ عَرِينِهِ، فَمَنْ يَكْفِنِيهِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ: أَنَا، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ وَضَعَ شَمْعَةً فِي طَرَفِ رُمْحِهِ، ثُمَّ ضَرَبَ فَرَسَهُ، ثُمَّ طَعَنَ الْفُسْطَاطَ فَالْتَهَبَ نَارًا وَالْكَعْبَةُ يَوْمَئِذٍ مُؤَزَّرَةٌ فِي الطَّنَافِسِ، وَعَلَى أَعْلَاهَا الْجَرَّةُ، فَطَارَتِ الرِّيحُ بِاللَّهَبِ عَلَى الْكَعْبَةِ حَتَّى احْتَرَقَتْ وَاحْتَرَقَ فِيهَا يَوْمَئِذٍ قَرَنَا الْكَبْشِ الَّذِي فُدِيَ بِهِ إِسْحَاقُ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَمَاتَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فَهَرَبَ حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ، فَلَمَّا مَاتَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ دَعَا مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ إِلَى نَفْسِهِ، فَأَجَابَهُ أَهْلُ حِمْصَ، وَأَهْلُ الْأُرْدُنِّ وَفِلَسْطِينِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ الْفِهْرِيَّ فِي مِائَةِ أَلْفٍ، فَالْتَقَوْا بِمَرْجِ رَاهِطٍ وَمَرْوَانُ يَوْمَئِذٍ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَمَوَالِيهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَقَالَ مَرْوَانُ لِمَوْلًى لَهُ كَرِهٍ: احْمِلْ عَلَى أَيِّ الطَّرَفَيْنِ شِئْتَ، فَقَالَ: كَيْفَ نَحْمِلُ عَلَى هَؤُلَاءِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ؟ فَقَالَ: هُمْ بَيْنَ مُكْرَهٍ وَمُسْتَأَجَرٍ، احْمِلْ عَلَيْهِمْ لَا أُمَّ لَكَ، فَيَكْفِيكَ الطِّعَانُ النَّاجِعُ الْجَيِّدُ، وَهُمْ يَكْفُونَكَ بِأَنْفُسِهِمْ، إِنَّمَا هَؤُلَاءِ عُبَيْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ فَهَزَمَهُمْ، وَأَقْبَلَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ وَانْصَدَعَ الْجَيْشُ، فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ:
[البحر الطويل]
لَعَمْرِي لَقَدْ أَبْقَتْ وَقِيعَةُ رَاهِطٍ ... لِمَرْوَانَ صَرْعَى وَاقِعَاتٍ وَسَابَيَا
أَمْضَى سِلَاحِي لَا أَبَا لَكَ إِنَّنِي ... لَدَى الْحَرْبِ لَا يَزْدَادُ إِلَّا تَمَادِيَا
فَقَدْ يَنْبُتُ الْمَرْعَى عَلَى دِمَنِ الثَّرَى ... وَيُبْقِي خُزَرَاتِ النُّفُوسِ كَمَا هِيَا
وَفِيهِ يَقُولُ أَيْضًا:
أَفِي الْحَقِّ أَمَّا بَحْدَلُ وَابْنُ بَحْدَلٍ ... فَيَحْيَا وَأَمَّا ابْنُ الزُّبَيْرِ فَيُقْتَلُ
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ لَا يَقْتُلُونَهُ ... وَلَمَّا يَكُنْ يَوْمٌ أَغَرُّ مُحَجَّلُ
وَلَمَّا يَكُنْ لِلْمَشْرَفِيَّةِ فِيكُمْ ... شُعَاعٌ كَنُورِ الشَّمْسِ حِينَ تَرَجَّلُ
قَالَ: ثُمَّ مَاتَ مَرْوَانُ فَدَعَا عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى نَفْسِهِ وَقَامَ، فَأَجَابَهُ أَهْلُ الشَّامِ، فَخَطَبَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ: مَنْ لِابْنِ الزُّبَيْرِ؟ فَقَالَ الْحَجَّاجُ: أَنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَسْكَتَهُ، ثُمَّ عَادَ فَأَسْكَتَهُ، ثُمَّ عَادَ فَأَسْكَتَهُ، ثُمَّ عَادَ فَقَالَ: أَنَا لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنِّي رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنِّي انْتَزَعْتُ جَنَّةً فَلَبِسْتُهَا فَعَقَدَ لَهُ وَوَجَهَّهُ فِي الْجَيْشِ إِلَى مَكَّةَ حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى، حَتَّى وَرَدَهَا عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَاتِلْهُ بِهَا، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لِأَهْلِ مَكَّةَ: «احْفَظُوا هَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ، فَإِنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا بِخَيْرٍ أَعِزَّةٍ مَا لَمْ يَظْهَرُوا عَلَيْهِمَا» ، قَالَ: فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ ظَهَرَ الْحَجَّاجُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدَاةُ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى أُمُّهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ بِنْتُ مِائَةِ سَنَةٍ لَمْ يَسْقُطٍ لَهَا سِنٌّ وَلَمْ يَفْسَدْ لَهَا بَصَرٌ وَلَا سَمْعٌ، فَقَالَتْ لِابْنِهَا: يَا عَبْدَ اللَّهِ، مَا فَعَلْتَ فِي حِرْبِكَ؟ قَالَ: «بَلَغُوا مَكَانَ كَذَا وَكَذَا» قَالَ: وَضَحِكَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَقَالَ: «إِنَّ فِي الْمَوْتِ لَرَاحَةً» فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، لَعَلَّكَ تَمَنَّيْتَهُ لِي مَا أُحِبُّ أَنْ أَمُوتَ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى أَحَدِ طَرَفَيْكَ، إِمَّا أَنْ تَظْفَرَ فَتَقَرَّ بِذَلِكَ عَيْنِي، وَإِمَّا أَنْ تُقْتَلَ فَأَحْتَسِبَكَ، قَالَ: ثُمَّ وَدَّعَهَا فَقَالَتْ لَهُ: يَا بُنَيَّ، إِيَّاكَ أَنْ تُعْطِيَ خَصْلَةً مِنْ دِينِكَ مَخَافَةَ الْقَتْلِ، وَخَرَجَ عَنْهَا فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَقَدْ جَعَلَ مِصْرَاعَيْنِ عَلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ يَبْقَى أَنْ تُصِيبَ بِالْمَنْجَنِيقِ، وَأَتَى ابْنُ الزُّبَيْرِ آتٍ وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدَ زَمْزَمَ، فَقَالَ لَهُ: أَلَا نَفْتَحُ لَكَ الْكَعْبَةَ فَتَصْعَدُ فِيهَا؟ فَنَظَرَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: «مِنْ كُلِّ شَيْءٍ تَحْفَظُ أَخَاكَ إِلَّا مِنْ نَفْسِهِ ـ يَعْنِي مِنْ أَجَلِهِ ـ وَهَلْ لِلْكَعْبَةِ حُرْمَةٌ لَيْسَتْ لِهَذَا الْمَكَانِ، وَاللَّهِ لَوْ وَجَدُوكُمْ مُعَلَّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ لَقَتَلُوكُمْ» فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تُكَلِّمُهُمْ فِي الصُّلْحِ؟ فَقَالَ: «أَوَ حِينَ صُلْحٍ هَذَا؟ وَاللَّهِ لَوْ وَجَدُوكُمْ فِي جَوْفِهَا لَذَبَحُوكُمْ جَمِيعًا» ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: «
وَلَسْتُ بِمُبْتَاعِ الْحَيَاةِ بِبَيْعَةٍ ... وَلَا مُرْتَقِ مِنْ خَشْيَةِ الْمَوْتِ سُلَّمًا
أُنَافِسُ أَنَّهُ غَيْرُ نَازِحٍ مُلَاقٍ ... الْمَنَايَا أَيَّ صَرْفٍ تَيَمَّمَا»
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى آلِ الزُّبَيْرِ يَعِظُهُمْ: «لِيَكُنْ أَحَدُكُمْ سَيْفُهُ كَمَا يَكُونُ وَجْهُهُ، لَا يَنْكُسُ سَيْفَهُ فَيَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ بِيَدِهِ كَأَنَّهُ امْرَأَةٌ، وَاللَّهِ مَا لَقِيتُ زَحْفًا قَطُّ إِلَّا فِي الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ، وَلَا أَلِمَتْ جُرْحٌ قَطُّ إِلَّا أَنْ أَلِمَ الدَّوَاءُ» قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ وَمَعَهُ سَبْعُونَ، فَأَوَّلُ مَنْ لَقِيَهُ الْأَسْوَدَ فَضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ حَتَّى أَطَنَّ رِجْلَهُ، فَقَالَ لَهُ الْأَسْوَدُ: آهٍ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: «أَحْسِنْ يَا ابْنَ حَامٍ لَأَسْمَاءُ زَانِيَةٌ» ، ثُمَّ أَخْرَجَهُمْ مِنَ الْمَسْجِدِ فَانْصَرَفَ، فَإِذَا بِقَوْمٍ قَدْ دَخَلُوا مِنْ بَابِ بَنِي سَهْمٍ، فَقَالَ: «مَنْ هَؤُلَاءِ؟» فَقِيلَ: أَهْلُ الْأُرْدُنِّ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يَقُولُ: «
[البحر الرجز]
لَا عَهْدَ لِي بِغَارَةٍ مِثْلِ السَّيْلِ ... لَا يَنْجَلِي غُبَارُهَا حَتَّى اللَّيْلِ»
قَالَ: فَأَخْرَجَهُمْ مِنَ الْمَسْجِدِ ثُمَّ رَجَعَ، فَإِذَا بِقَوْمٍ قَدْ دَخَلُوا مِنْ بَابِ بَنِي مَخْزُومٍ فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يَقُولُ: «
لَوْ كَانَ قَرْنِي وَاحِدًا لَكَفَيْتُهُ أَوْرَدْتُهُ الْمَوْتَ وَذَكَّيْتُهُ» قَالَ: وَعَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ مِنْ أَعْوَانِهِ مَنْ يَرْمِي عَدُوَّهُ بِالْآجُرِّ وَغَيْرِهِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ فَأَصَابَتْهُ آجُرَّةٌ فِي مَفْرِقِهِ حَتَّى حَلَقَتْ رَأْسَهُ فَوَقَفَ قَائِمًا وَهُوَ يَقُولُ: «
وَلَسْنَا عَلَى الْأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا ... وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا تَقْطُرُ الدِّمَاءُ»
قَالَ: ثُمَّ وَقَعَ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ مَوْلَيَانِ لَهُ وَهُمَا يَقُولَانِ: الْعَبْدُ يَحْمِي رَبَّهُ وَيُحْمَى، قَالَ: ثُمَّ سِيرَ إِلَيْهِ فَحَزَّ رَأْسَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ