فعقب الذهبي بقوله: قلت: هذه التفرقة والتفصيل ما قالها أحد قبله، فيما علمت، وما زال المسلمون على أن القرآن العظيم كلام الله ووحيه وتنزيله، حتى أظهر المأمون القول: بأنه مخلوق، وظهرت مقالة المعتزلة، فثبت الإمام أحمد بن حنبل، وأئمة السنة على القول: بأنه غير مخلوق، إلى أن ظهرت مقالة حسين بن علي الكرابيسي، وهي: أن القرآن كلام غير مخلوق، وأن ألفاظنا به مخلوقة، فأنكر الإمام أحمد ذلك، وعده بدعة، وقال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق، يريد به القرآن فهو جهمي. وقال أيضا: من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فهو مبتدع. فزجر عن الخوض في ذلك من الطرفين.
وأما داود فقال: القرآن محدث فقام على داود خلق من أئمة الحديث، وأنكروا قوله وبدعوه، وجاء من بعده طائفة من أهل النظر، فقالوا: كلام الله معنى قائم بالنفس، وهذه الكتب المنزلة دالة عليه، ودققوا وعمقوا، فنسأل الله الهدى واتباع الحق، فالقرآن العظيم، حروفه ومعانيه وألفاظه كلام رب العالمين، غير مخلوق، وتلفظنا به وأصواتنا به من أعمالنا المخلوقة، قال النبي ﷺ:"زينوا القرآن بأصواتكم".
ولكن لما كان الملفوظ لا يستقل إلا بتلفظنا، والمكتوب لا ينفك عن كتابة، والمتلو لا يسمع إلا بتلاوة قال، صعب فهم المسألة وعسر إفراز اللفظ الذي هو الملفوظ من اللفظ الذي يعني به التلفظ، فالذهن يعلم الفرق بين هذا وبين هذا، والخوض في هذا خطر -نسأل الله السلامة في الدين- وفي المسألة بحوث طويلة، الكف عنها أولى، ولا سيما في هذه الأزمنة المزمنة.
وقال في "السير""٧/ (١٣٨) ":
نهى ﵊ أن يبنى على القبور، ولو اندفن الناس في بيوتهم، لصارت المقبرة والبيوت شيئا واحدا، والصلاة في المقبرة فمنهي عنها نهي كراهة أو نهي تحريم، وقد قال ﵊:"أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة"(١).
فناسب ذلك ألا تتخذ المساكن قبورا.
وأما دفنه في بيت عائشة -صلوات الله عليه وسلامه- فمختص به، كما خص ببسط قطيفة تحته في لحده، وكما خص بأن صلوا عليه فرادى بلا إمام، فكان هو إمامهم حيا وميتا في
(١) صحيح: أخرجه البخاري "٧٣١"، ومسلم "٧٨١" وقد خرجته في المصدر المشار إليه.