لوجب العمل بالدلائل المانعة من اتباع الظن فيكون إثباتا للإجماع بما لا يثبت حجيته إلا به فيصير دورا، واستصعب التفصي عنه، وقد ذكره ابن الحاجب في المختصر، وقريب منه قول الأصفهاني، في اتباع سبيلهم لما احتمل ما ذكر وغيره صار عاما، ودلالته على فرد من أفراده غير قطعية لاحتمال تخصيصه بما يخرجه مع ما فيه من الدور، وأجاب عن الدور بأنه إنما يلزم لو لم يقم عليه دليل آخر، وعليه دليل آخر، وهو أنه مظنون يلزم العمل به لأنا إن لم نعمل به وحده فإما أن نعمل به وبمقابله أو لا نعمل بهما، أو نعمل بمقابله، وعلى الأول يلزم الجمع بين النقيضين، وعلى الثاني ارتفاعهما، وعلى الثالث العمل بالمرجوح مع وجود الراجح والكل باطل، فيلزم العمل به قطعا، واعترض أيضا بمنع حرمة اتباع غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مطلقا بل بشرط المشاقة، وأجاب عنه القوم بما لا يخلو عن ضعف وبأن الاستدلال يتوقف على تخصيص المؤمنين بأهل الحل والعقد في كل عصر، والقرينة عليه غير ظاهرة، وبأمور أخر ذكرها الآمدي والتلمساني وغيرهما، وأجابوا عما أجابوا عنه منها، وبالجملة لا يكاد يسلم هذا الاستدلال من قيل وقال، وليست حجية الإجماع موقوفة على ذلك كما لا يخفى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ قد مر تفسيره فيما سبق وكرر للتأكيد، وخص هذا الموضع به ليكون كالتكميل لقصة من سبق بذكر الوعد بعد ذكر الوعيد في ضمن الآيات السابقة فلا يضر بعد العهد، أو لأن للآية سببا آخر في النزول،
فقد أخرج الثعلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن شيخا من العرب جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إني شيخ منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله تعالى منذ عرفته وآمنت به ولم أتخذ من دونه وليا ولم أوقع المعاصي جراءة وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله تعالى هربا وإني لنادم تائب، فما ترى حالي عند الله تعالى؟» فنزلت.
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شيئا من الشرك، أو أحدا من الخلق، وفي معنى الشرك به تعالى نفي الصانع، ولا يبعد أن يكون من أفراده فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً عن الحق، أو عن الوقوع ممن له أدنى عقل، وإنما جعل الجزاء على ما قيل هنا فَقَدْ ضَلَّ إلخ، وفيما تقدم فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً [النساء: ٤٨] لما أن تلك كانت في أهل الكتاب وهم مطلعون من كتبهم على ما لا يشكون في صحته من أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم ووجوب اتباع شريعته وما يدعو إليه من الإيمان بالله تعالى ومع ذلك أشركوا وكفروا فصار ذلك افتراء واختلافا وجراءة عظيمة على الله تعالى، وهذه الآية كانت في أناس لم يعلموا كتابا ولا عرفوا من قبل وحيا ولم يأتهم سوى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالهدى ودين الحق فأشركوا بالله عز وجل وكفروا وضلوا مع وضوح الحجة وسطوع البرهان فكان ضلالهم بعيدا، ولذلك جاء بعد تلك أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ [النساء: ٤٩] وقوله سبحانه: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النساء: ٥٠] وجاء بعد هذه قوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً أي ما يعبدون، أو ما ينادون لحوائجهم من دون الله تعالى إلا أصناما، والجملة مبينة لوجه ما قبلها ولذا لم تعطف عليه، وعبر عن الأصنام بالإناث لما روي عن الحسن أنه كان لكل حي من أحياء العرب صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان لأنهم يجعلون عليه الحلي وأنواع الزينة كما يفعلون بالنسوان، أو لما أن أسماءها مؤنثة- كما قيل- وهم يسمون ما اسمه مؤنث أنثى كما في قوله:
وما ذكر فإن يكبر فأنثى ... شديد اللزم ليس له ضروس
فإنه عنى القراد، وهو ما دام صغيرا يسمى قرادا فإذا كبر سمي حلمة كثمرة، واعترض بأن من الأصنام ما اسمه مذكر- كهبل وودّ وسواع وذي الخلصة- وكون ذلك باعتبار الغالب غير مسلم، وقيل: إنها جمادات وهي كثيرا ما تؤنث لمضاهاتها الإناث لانفعالها، ففي التعبير عنها بهذا الاسم تنبيه على تناهي جهلهم وفرط حماقتهم حيث يدعون ما ينفعل ويدعون الفعال لما يريد، وقيل: المراد بالإناث الأموات، فقد أخرج ابن جرير وغيره عن الحسن أن الأنثى كل