الذم باعتبار كون ذلك مسببا عما كسبه الكفار إلخ فنقول فيه: إن أرادوا بالكسب ما شاع عند الأشاعرة من مقارنة الفعل لقدرة العبد من غير تأثير لها فيه أصلا وإنما المؤثر هو الله تعالى فهو مع مخالفته لمعنى الكسب وكونه كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النور: ٣٩] لا يشفي عليلا ولا يروي غليلا إذ للخصم أن يقول أي معنى لذم العبد بشيء لا مدخل لقدرته فيه إلا كمدخل اليد الشلاء فيما فعلته الأيدي السليمة وحينئذ يتأتى ما قاله الصاحب ابن عباد في هذا الباب: كيف يأمر الله تعالى العبد بالإيمان وقد منعه منه وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه، وكيف يصرفه عن الإيمان ثم يقول أَنَّى يُصْرَفُونَ [غافر: ٦٩] ويخلق فيهم الإفك ثم يقول فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [الإنعام: ٨٥، يونس: ٣٤، فاطر: ٣، غافر: ٦٢] وأنشأ فيهم الكفر ثم يقول لِمَ تَكْفُرُونَ [آل عمران: ٧٠، ٩٨] وخلق فيهم لبس الحق بالباطل ثم يقول لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ [آل عمران: ٧١] وصدهم عن السبيل ثم يقول لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران: ٩٩] وحال بينهم وبين الإيمان ثم قال وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا [النساء: ٣٩] وذهب بهم عن الرشد ثم قال فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [التكوير: ٢٦] وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ثم قال فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ [المدثر: ٤٩] ؟!! فإن أجابوا بأن الله أن يفعل ما يشاء ولا يتعرض للاعتراض عليه المعترضون لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء: ٢٣] قلنا لهم: هذه كلمة حق أريد بها باطل وروضة صدق ولكن ليس لكم منها حاصل لأن كونه تعالى لا يسأل عما يفعل ليس إلا لأنه حكيم لا يفعل ما عنه يسأل وإذا قلتم لا أثر للقدرة الحادثة في مقدورها كما لا أثر للعلم في معلومه فوجه مطالبة العبد بأفعاله كوجه مطالبته بأن يثبت في نفسه ألوانا وإدراكات وهذا خروج عن حد الاعتدال إلى التزام الباطل والمحال، وفيه إبطال الشرائع العظام ورد ما ورد عن النبيين عليهم الصلاة والسلام. وإن أرادوا بالكسب فعل العبد استقلالا ما يريده هو وإن لم يرده الله تعالى فهذا مذهب المعتزلة وفيه الخروج عما درج عليه سلف الأمة واقتحام ورطات الضلال وسلوك مهامه الوبال.
مسا ولو قسمن على الغواني ... لما أمهرن إلا بالطلاق
وإن أرادوا به تحصيل العبد بقدرته الحادثة حسب استعداده الأزلي المؤثرة لا مستقلا بل بإذن الله تعالى ما تعلقت به من الأفعال الاختيارية مشيئته التابعة لمشيئة الله تعالى على ما أشرنا إليه فنعمت الإرادة وحبذا السلوك في هذه الجادة، وسيأتي إن شاء الله تعالى بسطها وإقامة الأدلة على صحتها وإماطة الأذى عن طريقها إلا أن أشاعرتنا اليوم لا يشعرون وأنهم ليحسبون أنهم يحسنون صنعا ولبئس ما كانوا يصنعون.
ما في الديار أخو وجد نطارحه ... حديث نجد ولا خل نجاريه
وأما ما ذكره المعتزلة لا سيما علامتهم الزمخشري فليس أول عشواء خبطوها وفي مهواة من الأهواء أهبطوها ولكم نزلوا عن منصة الإيمان بالنص إلى حضيض تأويله ابتغاء الفتنة واستيفاء لما كتب عليهم من المحنة وطالما استوخموا من السنة المناهل العذاب ووردوا من حميم البدعة موارد العذاب، والشبهة التي تدندن هنا حول الحمى أن أفعال العباد لو كانت مخلوقة لله تعالى لما نعاها على عباده ولا عاقبهم بها ولا قامت حجة الله تعالى عليهم وهي أوهى من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت، وقد علمت جوابها مما قدمناه لك- وليكن على ذكر منك- على أنا نرجع فنقول إن أسندوا الملازمة- وكذلك يفعلون- إلى قاعدة التحسين والتقبيح، وقالوا: معاقبة الإنسان مثلا بفعل غيره قبيحة في الشاهد لا سيما إذا كانت من الفاعل فيلزم طرد ذلك غائبا، قيل: ويقبح في الشاهد أيضا أن يمكن الإنسان عبده من القبائح والفواحش بمرأى ومسمع ثم يعاقبه على ذلك مع القدرة على ردعه ورده من الأول عنها وأنتم تقولون: إن القدرة التي بها يخلق العبد الفواحش لنفسه مخلوقة لله تعالى على علم منه عز وجل أن العبد يخلق بها