ومن ضرورة ذلك إجماع الكل على مضادتكم ومضارتكم بحيث يسومونكم السوء ويبغونكم الغوائل، فكيف يتصور بينكم وبينهم موالاة، وزعم الحوفي أن الجملة في موضع الصفة لأولياء، والظاهر هو الأول وقوله تعالى:
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أي من جملتهم، وحكمه حكمهم كالمستنتج مما قبله، وهو مخرج مخرج التشديد والمبالغة في الزجر لأنه لو كان المتولي منهم حقيقة لكان كافرا وليس بمقصود، وقيل: المراد وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ كافر مثلهم حقيقة، وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ولعل ذلك إذا كان توليهم من حيث كونهم يهودا أو نصارى، وقيل: لا بل لأن الآية نزلت في المنافقين، والمراد أنهم بالموالاة يكونون كفارا مجاهرين، وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أنفسهم بموالاة الكفار. أو المؤمنين بموالاة أعدائهم، تعليل آخر على ما قيل يتضمن عدم نفع موالاة الكفرة بل ترتب الضرر عليها، وقيل: هو تعليل لكون من يتولاهم منهم أي لا يهديهم إلى الإيمان بل يخليهم وشأنهم فيقعون في الكفر والضلالة، وإنما وضع المظهر موضع ضميرهم تنبيها على أن توليهم ظلم لما أنه تعريض للنفس للعذاب الخالد ووضع للشيء في غير موضعه، وقوله تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي نفاق- كعبد الله بن أبيّ وأضرابه- كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بيان لكيفية توليتهم وإشعار بسببه وبما يؤول إليه أمرهم، والفاء للإيذان بترتبه على عدم الهداية وهي للسببية المحضة.
وجوز الكرخي كونها للعطف على إِنَّ اللَّهَ إلخ من حيث المعنى، والخطاب إما للرسول صلّى الله عليه وسلّم بطريق التلوين، وإما لكل من له أهلية، والإتيان بالموصول دون ضمير القوم ليشار بما في حيز الصلة إلى أن ما ارتكبوه من التولي بسبب ما كمن من المرض والرؤية إما بصرية، وقوله تعالى: يُسارِعُونَ فِيهِمْ حال من المفعول وهو الأنسب بظهور نفاقهم، وإما قلبية والجملة في موضع المفعول الثاني، والمراد على التقديرين مسارعين في موالاتهم إلا أنه قيل: فيهم مبالغة في بيان رغبتهم فيها وتهالكهم عليها، وإيثار كلمة فِي على كلمة- إلى- للدلالة على أنهم مستقرون في الموالاة، وإنما مسارعتهم من بعض مراتبها إلى بعض آخر منها.
وفسر الزمخشري المسارعة بالانكماش لكثرة استعماله بفي، وعدل عنه بعض المحققين لكونه تفسيرا بالأخفى. واختير أن تعدي المسارعة هنا بإلى لتضمنها معنى الدخول، وقرىء- فيرى- بياء الغيبة على أن الضمير- كما قال أبو البقاء- لله تعالى، وقيل: لمن يصح منه الرؤية، وقيل: الفاعل هو الموصول، والمفعول هو الجملة على حذف أن المصدرية، والرؤية قلبية أي فيرى القوم الذين في قلوبهم مرض أن يسارعوا فيهم فلما حذفت أن انقلب الفعل مرفوعا كما في قوله: ألا أي هذا الزاجري احضر الوغى. وقوله عز وجل: يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ حال من فاعل يسارعون، والدائرة- من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها، وأصلها داورة لأنها من دار يدور، ومعناها لغة- على ما في القاموس- ما أحاط بالشيء، وفي شرح الملخص إن الدائرة سطح مستو يحيط به خط مستدير يمكن أن يفرض في داخله نقطة يكون البعد بينها وبينه واحدا في جميع الجهات، وقد تطلق الدائرة على ذلك الخط المحيط أيضا انتهى، واختلف في أن أي المعنيين حقيقة، فقيل: إنها حقيقة في الأول، مجاز في الثاني، وقيل:
بالعكس، قال البرجندي: وتحقيق ذلك أنه إذا ثبت أحد طرفي خط مستقيم وأدير دورة تامة يحصل سطح دائرة يسمى بها لأن هيئة هذا السطح ذات دور، على أن صيغة الفاعل للنسبة، وإذا توهم حركة نقطة حول نقطة ثابتة دورة تامة بحيث لا يختلف بعد النقطة المتحركة عن النقطة الثابتة يحصل محيط دائرة يسمى بها لأن النقطة كانت دائرة فسمي ما حصل من دورانها دائرة فإن اعتبر الأول ناسب أن يكون إطلاق الدائرة على السطح حقيقة وعلى المحيط مجازا، وإذا اعتبر الثاني ناسب أن يكون الأمر بالعكس انتهى.