للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقدره بعضهم من أن يكون لك شريك فضلا من أن يتخذ إلهان دونك، وآخرون من أن تبعث رسولا يدعي ألوهية غيرك ويدعو إليها ويكفر بنعمتك، والأول أوفق بسياق النظم الكريم. وسبحان على سائر التقادير- على أحد الأقوال فيه وقد تقدمت- علم للتسبيح وانتصابه على المصدرية ولا يكاد يذكر ناصبه. وفيه من المبالغة في التنزيه من حيث الاشتقاق من السبح وهو الإبعاد في الأرض والذهاب، ومن جهة النقل إلى صيغة التفعيل والعدول عن المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصة المشير إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن وإقامته مقام المصدر مع الفعل ما لا يخفى.

وقوله سبحانه: ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ استئناف مقرر للتنزيه ومبين للمنزه عنه. وما الثانية سواء كانت موصولة أو نكرة موصوفة مفعول أَقُولَ والمراد بها على التقديرين القول المذكور أو ما يعمه وغيره ويدخل فيه القول المذكور دخولا أوليا، ونصب القول للمفردات نحو الجملة والكلام والشعر مما لا شك في صحته كنصبه الجمل الصريحة فلا حاجة إلى تفسير أقول بأذكر كما يتوهم. واسم ليس ضمير عائد إلى ما وبِحَقٍّ خبره، والجار والمجرور فيما بينهما للتبيين فيتعلق بمحذوف كما في سقيا لك. وإيثار ليس على الفعل المنفي على ما يحق لي لظهور دلالته على استمرار انتفاء الحقية وإفادة التأكيد بما في خبره من الباء المطرد زيادتها في خبر ليس.

ومعنى ما يَكُونُ لِي أي لا ينبغي ولا يليق وهو أبلغ من لم أقله فلذا أوثر عليه: والمراد لا ينبغي أن أقول قولا لا يحق لي قوله أصلا في وقت من الأوقات، وجوز أبو البقاء أن يكون لِي خبر ليس وبِحَقٍّ في موضع الحال من الضمير في الجار والعامل فيه ما فيه من معنى الاستقرار. وأن يكون متعلقا بفعل محذوف على أنه مفعول له والباء للسببية أي ما ليس يثبت لي بسبب حق. وأن يكون خبر ليس ولِي صفة حق قدم عليه فصار حالا، وهذا مخرج على رأي من أجاز تقديم المجرور عليه، وقيل: إن لِي متعلق بحق وهو الخبر. وهو أيضا مبني على قول بعض النحاة المجوز تقديم صلة المجرور على الجار. والجمهور على عدم الجواز ولا فرق عندهم في المنع بين أن يكون الجار زائدا أو غيره، وقوله عز وجل: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ استدلال على براءته من صدور القول المذكور عنه فإن صدوره عنه مستلزم لعلمه به تعالى قطعا والعلم به منتف فينتفي الصدور ضرورة أن انتفاء اللازم مستلزم لانتفاء الملزوم. واستشكلت هذه الجملة بأن المعنى على المضي هنا وأن تقلب الماضي مستقبلا. وأجاب عن ذلك المبرد بأن كان قوية الدلالة على المضي حتى قيل إنها موضوعة له فقط دون الحدث وجعلوه وجها لكونها ناقصة فلا تقدر إن على تحويلها إلى الاستقبال.

وأجاب ابن السراج بأن التقدير إن أقل كنت قلته إلخ وكذا يقال فيما كان من أمثال ذلك، وقد نقل ذلك عثمان ابن يعيش وضعفه ابن هشام في تذكرته، والجمهور على أن المعنى إن صح قولي ودعواي ذلك فقد تبين علمك به تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي استئناف جار مجرى التعليل لما قبله فقوله جل شأنه: وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ بيان للواقع وإظهار لقصوره عليه السلام، وللنفس في كلامهم إطلاقات فتطلق على ذات الشيء وحقيقته وعلى الروح وعلى القلب وعلى الدم وعلى الإرادة، قيل: وعلى العين التي تصيب وعلى الغيب وعلى العقوبة. ويفهم من كلام البعض أنها حقيقة في الإطلاق الأولى مجاز فيما عداه، وفسر غير واحد النفس هنا بالقلب، والمراد تعلم معلومي الذي أخفيه في قلبي فكيف بما أعلنه ولا أعلم معلومك الذي تخفيه وسلك في ذلك مسلك المشاكلة كما في قوله:

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه ... قلت اطبخوا لي جبة وقميصا

إلا أن ما في الآية كلا اللفظين وقع في كلام شخص واحد وما في البيت ليس كذلك. وفي الدر المصون أن هذا التفسير مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وحكاه عنه أيضا في مجمع البيان. وفسرها بعضهم بالذات

<<  <  ج: ص:  >  >>