للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لما أخرج أبو الشيخ عن سفيان والكلبي أن هذه الآية مدنية، واستشكل أيضا قول مجاهد بأن مشركي قريش كما ينكرون رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم ينكرون رسالة سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكيف يحسن إيراد هذا الإلزام عليهم.

ودفع بأن ذلك لما أنه كان إنزال التوراة من المشاهير الذائعة ولذلك كانوا يقولون: لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [الأنعام: ١٥٧] حسن إلزامهم بما ذكر، ومع هذا ما ذهب إليه الجمهور أحرى بالقبول. ومن الناس من ادعى أن في الآية حجة من الشكل الثالث وهي أن موسى بشر وموسى أنزل عليه كتاب ينتج أن بعض البشر أنزل عليه كتاب وتؤخذ الصغرى من قوة الآية والكبرى من صريحها والنتيجة موجبة جزئية تكذب السالبة الكلية التي ادعتها اليهود وهي لا شيء من البشر أنزل عليه كتاب المأخوذة من قولهم: وما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ وإنما نتجت هاتان الشخصيتان مع أن شرط الشكل الثالث كلية إحدى المقدمتين لأن الشخصية عندهم في حكم الكلية.

وقال الإمام: تفلسف حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة فقال: إن هذه الآية مبنية على الشكل الثاني من الأشكال المنطقية، وذلك لأن حاصلها يرجع إلى أن موسى أنزل الله تعالى عليه شيئا وواحد من البشر ما أنزل الله تعالى عليه شيئا ينتج أن موسى ما كان من البشر وهذا خلف محال، وهذه الاستحالة ليست بحسب شكل القياس لا بحسب صحة المقدمة الأولى فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة الثانية وهي قولهم: ما أَنْزَلَ اللَّهُ إلخ فوجب القول بأنها كاذبة وفي ذلك تأمل فليتأمل. ثم إن وصف الكتاب بالوصول إليهم لزيادة التقرير وتشديد التبكيت، وكذا تقييده بقول سبحانه: نُوراً وَهُدىً فإن كونه بينا بنفسه ومبينا لغيره مما يؤكد الإلزام أي توكيد، وانتصابهما على الحالية من الكتاب والعامل أَنْزَلَ أو من ضمير بِهِ والعامل جاء، والظاهر تعلق الظرف بجاء، وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا من الفاعل، واللام في قوله سبحانه: لِلنَّاسِ إما متعلق بهدى أو بمحذوف وقع صفة له أي هدى كائنا للناس، والمراد بهم بنو إسرائيل، وقيل: هم ومن عداهم، ومعنى كونه هدى لهم أنه يرشد من وقف عليه بالواسطة أو بدونها إلى ما ينجيه من الإيمان بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم. وقوله تعالى: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ استئناف لا موضع له من الإعراب مسوق لنعي ما فعلوه من التحريف والتغيير عليهم. وجوز أن يكون في موضع نصب على الحال كما تقدم أي تضعونه في قراطيس مقطعة وأوراق مفرقة بحذف الجار بناء على تشبيه القراطيس بالظرف المبهم كما قيل.

وقال أبو علي الفارسي: المراد تجعلونه ذا قراطيس، وجوز غير واحد عدم التقدير على معنى تجعلونه نفس القراطيس، وفيه زيادة توبيخ لهم بسوء صنيعهم كأنهم أخرجوه من جنس الكتاب ونزلوه منزلة القراطيس الخالية عن الكتابة، وليس المراد على الأول توبيخهم بمجرد وضعهم له في قراطيس إذ كل كتاب لا بد وأن يودع في القراطيس بل المراد التوبيخ على الجعل في قراطيس موصوفة بقوله سبحانه: تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً فالجملة المعطوفة والمعطوف عليها في موضع الصفة لقراطيس، والعائد على الموصوف من المعطوفة محذوف أي كثيرا منها، والمراد من الكثير نعوت النبي صلّى الله عليه وسلّم وسائر ما كتموه من أحكام التوراة كرجم الزاني المحصن. وهذا خطاب لليهود بلا مرية وكانوا يفعلون ذلك مع عوامهم متواطئين عليه، وهو ظاهر على تقدير أن يكون الجواب السابق لهم لأن مشافهتهم به يقتضي خطابهم، ومن جعل ما تقدم للمشركين حمل هذا على الالتفات لخطاب اليهود حيث جرى ذكرهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الأفعال الثلاثة بياء الغيبة، وضمير الجمع لليهود أيضا إلا أنه التفت عن خطابهم تبعيدا لهم بسبب ارتكابهم القبيح عن ساحة الخطاب ولذا خاطبهم حيث نسب إليهم الحسن في قوله سبحانه: وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ وهذا أحسن- كما قيل- من الالتفات على القول الأول لأن فيه نقلا من الكلام مع جماعة

<<  <  ج: ص:  >  >>