عليه الصلاة والسلام: أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه صلّى الله عليه وسلّم» .
واستدل بالآية على أن الأنبياء عليهم السلام قد يجتهدون وأنه قد يكون الوحي على خلافه ولا يقرون على الخطأ، وتعقب بأنها إنما تدل على ذلك لو لم يقدر في ما كانَ لِنَبِيٍّ لأصحاب نبي ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر مع أن الإذن لهم فيما اجتهدوا فيه اجتهاد منه عليه الصلاة والسلام إذ لا يمكن أن يكون تقليدا لأنه لا يجوز له التقليد، وأما أنها إنما تدل على اجتهاد النبي صلّى الله عليه وسلّم لا اجتهاد غيره من الأنبياء عليهم السلام فغير وارد لأنه إذا جاز له عليه الصلاة والسلام جاز لغيره بالطريق الأولى، وتمام البحث في كتب الأصول، لكن بقي هاهنا شيء وهو أنه قد جاء من اجتهد وأخطأ فله أجر ومن اجتهد وأصاب فله أجران إلى عشرة أجور فهل بين ما يقتضيه الخبر من ثبوت الأجر الواحد للمجتهد المخطئ وبين عتابه على ما يقع منه منافاة أم لا؟ لم أر من تعرض لتحقيق ذلك، وإذا قيل: بالأول لا يتم الاستدلال بالآية كما لا يخفى لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ قيل: أي لولا حكم منه تعالى سبق إثباته في اللوح المحفوظ وهو أن لا يعذب قوما قبل تقديم ما يبين لهم أمرا أو نهيا، وروى ذلك الطبراني في الأوسط. وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ورواه أبو الشيخ عن مجاهد أو المخطئ في مثل هذا الاجتهاد، وقيل: هو أن لا يعذبهم ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم أو أن لا يعذب أهل بدر رضي الله تعالى عنهم،
فقد روى الشيخان وغيرهما «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لعمر رضي الله تعالى عنه في قصة حاطب وكان قد شهد بدرا: وما يدريك لعل الله تعالى اطلع على أهل بدر، وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»
وقريب من هذا ما روي عن مجاهد أيضا، وابن جبير وزعم أن هذا قول بسقوط التكليف لا يصدر إلا عمن سقط عنه التكليف، والعجب من الإمام الرازي كيف تفوه به لأن المراد أن من حضر بدرا من المؤمنين يوفقه الله تعالى لطاعته، ويغفر له الذنب لو صدر منه ويثبته على الإيمان الذي ملأ به صدره إلى الموافاة لعظم شأن تلك الوقعة إذ هي أول وقعة أعز الله تعالى بها الإسلام وفاتحة للفتوح والنصر من الله عزّ وجلّ، وليس الأمر في الحديث على حقيقته كما لا يخفى، وقيل: هو أن الفدية التي أخذوها ستصير حلالا لهم. واعترض بأن هذا لا يصلح أن يعد من موانع مساس العذاب فإن الحل اللاحق لا يرفع حكم الحرمة السابقة كما أن الحرمة اللاحقة كما في الخمر مثلا لا ترفع حكم الإباحة السابقة، على أنه قادح في تهويل ما نعي عليهم من أخذ الفداء كما يدل عليه قوله سبحانه: لَمَسَّكُمْ أي لأصابكم فِيما أَخَذْتُمْ أي لأجل أخذكم أو الذي أخذتموه من الفداء عَذابٌ عَظِيمٌ لا يقادر قدره.
وأجيب بأنه لا مانع من اعتبار كونها ستحل سببا للعفو ومانعا عن وقوع العذاب الدنيوي المراد بما في الآية وإن لم يعتبر في وقت من الأوقات كون المباح سيحرم سببا للانتقام ومانعا من العفو تغليبا لجانب الرحمة على الجانب الآخر، وحاصل المعنى أن ما فعلتم أمر عظيم في نفسه مستوجب للعذاب العظيم لكن الذي تسبب العفو عنه ومنع ترتب العذاب عليه إني سأحله قريبا لكم، ومثل ذلك نظرا إلى رحمتي التي سبقت غضبي يصير سببا للعفو ومانعا عن العذاب، وكأن الداعي لتكلف هذا الجواب أن ما ذكر أخرجه ابن أبي حاتم وابن مروديه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وأخرجاهما والبيهقي وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا، ولا يبعد عندي أن يكون المانع من مساس العذاب كل ما تقدم، وفي ذلك تهويل لما نعي عليهم حيث منع من ترتب مساس العذاب عليه موانع جمة ولولا تلك الموانع الجمة لترتب، وتعدد موانع شيء واحد جائز وليس كتعدد العلل واجتماعها على معلول واحد شخصي كما بين في موضعه، وبهذا يجمع بين الروايات المختلفة عن الخبر في بيان هذا الكتاب، وذلك بأن