الجوزي: إن اللام متعلقة بقوله: اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ وفي قوله: لِيُقِيمُوا بضمير الجمع على ما في البحر دلالة على أن الله تعالى أعلمه بأن ولده إسماعيل عليه السلام سيعقب هنالك ويكون له نسل فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ أي أفئدة من أفئدتهم تَهْوِي إِلَيْهِمْ أي تسرع إليهم شوقا وودادا- فمن- للتبعيض، ولذا قيل: لو قال عليه السلام: أفئدة الناس لازدحمت عليهم فارس والروم، وهو مبني على الظاهر من إجابة دعائه عليه السلام وكون الجمع المضاف يفيد الاستغراق. وروي عن ابن جبير أنه قال: لو قال عليه السلام: أفئدة الناس لحجت البيت اليهود والنصارى.
وتعقب بأنه غير مناسب للمقام إذ المسئول توجيه القلوب إليهم للمساكنة معهم لا توجيهها إلى البيت للحج وإلا لقيل تهوى إليه فإن عين الدعاء بالبلدية قد حكي بعبارة أخرى اه. وأنت تعلم أنه لا منافاة بين الشرطية في المروي وكون المسئول توجيه القلوب إليهم للمساكنة معهم، وقد جاء نحو تلك الشرطية عن ابن عباس، ومجاهد كما في الدر المنثور. وغيره، على أن بعضهم جعل هذا دعاء بتوجيه القلوب إلى البيت. فقد أخرج ابن أبي شيبة. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن الحكم قال: سألت عكرمة. وطاوسا. وعطاء بن أبي رباح عن هذه الآية فَاجْعَلْ إلى آخره فقالوا: البيت تهوى إليه قلوبهم يأتونه، وفي لفظ قالوا: هواهم إلى مكة أن يحجوا نعم هو خلاف الظاهر، وجوز أن تكون مِنْ للابتداء كما في قولك: القلب منه سقيم تريد قلبه فكأنه قيل: أفئدة ناس، واعترضه أبو حيان بأنه لا يظهر كونها للابتداء لأنه لا فعل هنا يبتدأ فيه لغاية ينتهي إليها إذ لا يصح ابتداء جعل أفئدة من الناس.
وتعقبه بعض الأجلة بقوله: وفيه بحث فإن فعل الهوى للأفئدة يبتدأ به لغاية ينتهي إليها، ألا يرى إلى قوله: إِلَيْهِمْ وفيه تأمل اه وكأن فيه إشارة إلى ما قيل: من أن الابتداء في مِنْ الابتدائية إنما هو من متعلقها لا مطلقا، وإن جعلناها متعلقة- بتهوى- لا يظهر لتأخيره ولتوسيط الجار فائدة، وذكر مولانا الشهاب في توجيه الابتداء وترجيحه على التبعيض كلاما لا يخلو عن بحث فقال: اعلم أنه قال في الإيضاح أنه قد يكون القصد إلى الابتداء دون أن يقصد انتهاء مخصوص إذا كان المعنى لا يقتضي إلا المبتدأ منه كأعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم، وزيد أفضل من عمرو.
وقد قيل: إن جميع معاني مِنْ دائرة على الابتداء، والتبعيض هنا لا يظهر فيه فائدة كما في قوله: وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مريم: ٤] فإن كون قلب الشخص وعظمه بعضا منه معنى مكشوف غير مقصود بالإفادة فلذا جعلت للابتداء والظرف مستقر للتفخيم كأن ميل القلب نشأ من جملته مع أن ميل جملة كل شخص من جهة قلبه كما أن سقم قلب العاشق نشأ منه مع أنه إذا صلح صلح البدن كله، وإلى هذا نحا المحققون من شراح الكشاف لكنه معنى غامض فتدبره، والأفئدة مفعول أول- لا جعل- وهو جمع فؤاد وفسروه على ما في البحر. وغيره بالقلب لكن يقال له فؤاد إذا اعتبر فيه معنى التفؤد أي التوقد، يقال: فأدت اللحم أي شويته ولحم فئيد أي مشوي، وقيل: الأفئدة هنا القطع من الناس بلغة قريش وإليه ذهب ابن بحر، والمفعول الثاني جملة «تهوى» وأصل الهوى الهبوط بسرعة وفي كلام بعضهم السرعة، وكان حقه أن يعدى باللام كما في قوله:
حتى إذا ما هوت كف الوليد لها ... طارت وفي كفه من ريشها تبك
وإنما عدي بإلى لتضمينه معنى الميل كما في قوله:
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمن الجن كأنجاسها
ولما كان ما تقدم كالمبادئ لإجابة دعائه عليه السلام وإعطاء مسؤوله جاء بالفاء في قوله:«فاجعل» إلى آخره وقرأ هشام «أفئيدة» بياء بعد الهمزة نص عليه الحلواني عنه، وخرج ذلك على الإشباع كما في قوله: