الإخفاء حينئذ إنما يدفع الاحتجاج بإقرارهم- لا بما فتح الله عليهم على أن المدفوع في الوجه الأول زيادة التوبيخ والفضيحة- لا المحاجة- وقيل: عِنْدَ رَبِّكُمْ بتقدير- من عند ربكم- وهو معمول لقوله تعالى: بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وهو مما لا ينبغي أن يرتكب في فصيح الكلام، وجوز الدامغاني أن يكون عِنْدَ للزلفى أي لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ متقربين إلى الله تعالى- وهو بعيد أيضا- كقول بعض المتأخرين: إنه يمكن أن تجعل المحاجة به عند الرب عبارة عن المباهلة في تحقق ما يحدثونه، وعليه تكون المحاجة على مقتضى المفاعلة- وعندي- أن رجوع ضمير بِهِ لما فتح الله من حيث إنه محدث بِهِ وجعل القيد هو المقصود، أو للتحديث المفهوم من أَتُحَدِّثُونَهُمْ وحمل عِنْدَ رَبِّكُمْ على يوم القيامة، والتزام أن الإخفاء يدفع هذا الاحتجاج ليس بالبعيد- إلا أن أحدا لم يصرح به- ولعله أولى من بعض الوجوه فتدبر أَفَلا تَعْقِلُونَ عطف إما على أَتُحَدِّثُونَهُمْ- والفاء- لإفادة ترتب عدم عقلهم على تحديثهم، وإما على مقدر أي ألا تتأملون فلا تعقلون، والجملة مؤكدة لإنكار التحديث، وهو من تمام كلام اللائمين، ومفعوله إما ما ذكر أولا، أولا مفعول له- وهو أبلغ- وقيل: هو خطاب من الله تعالى للمؤمنين متصل بقوله تعالى
: أَفَتَطْمَعُونَ والمعنى أفلا تعقلون حال هؤلاء اليهود وأن لا مطمع في إيمانهم، وهم على هذه الصفات الذميمة والأخلاق القبيحة، ويبعده قوله تعالى: أَوَلا يَعْلَمُونَ فإنه تجهيل لهم منه تعالى فيما حكي عنهم فيكون توسيط خطاب المؤمنين في أثنائه من قبيل الفصل بين الشجرة ولحائها على أن في تخصيص الخطاب بالمؤمنين تعسفا ما، وفي تعميمه للنبي صلّى الله عليه وسلّم سوء أدب- كما لا يخفى- والاستفهام فيه للإنكار مع التقريع لأن أهل الكتاب كانوا عالمين بإحاطة علمه تعالى والمقصود بيان شناعة فعلهم بأنهم يفعلون ما ذكر مع علمهم.
أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ وفيه إشارة إلى أن الآتي بالمعصية مع العلم بكونها معصية أعظم وزرا- والواو- للعطف على مقدر ينساق إليه الذهن- والضمير للموبخين- أي أيلومونهم على التحديث المذكور مخافة المحاجة ولا يعلمون ما ذكر، وقيل: الضمير للمنافقين فقط، أو لهم وللموبخين، أو لآبائهم المحرفين، والظاهر حمل ما في الموضعين على العموم ويدخل فيه الكفر الذي أسروه، والإيمان الذي أعلنوه، واقتصر بعض المفسرين عليهما، وقيل: العداوة والصداقة، وقيل: صفته صلى الله تعالى عليه وسلم التي في التوراة المنزلة والصفة التي أظهروها افتراء على الله تعالى، وقدم سبحانه الإسرار على الإعلان، إما لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شيء يعلن إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمر في القلب يتعلق به الإسرار غالبا، فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية، وإما للإيذان بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه من أول الأمر، وإما للمبالغة في بيان شمول علمه المحيط بجميع الأشياء كان علمه بما يسرون أقدم منه بما يعلنونه مع كونهما- في الحقيقة- على السوية، فإن علمه تعالى ليس بطريق حصول الصورة، بل وجود كل شيء في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى، وفي هذا المعنى لا يختلف الحال بين الأشياء البارزة ولا الكامنة، وعكس الأمر في قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:
٢٨٤] لأن الأصل فيما تتعلق المحاسبة به هو الأمور البادية دون الخافية، وقرأ ابن محيصن «أو لا تعلمون» - بالتاء- فيحتمل أن يكون ذلك خطابا للمؤمنين أو خطابا لهم، ثم إنه تعالى أعرض عن خطابهم وأعاد الضمير إلى الغيبة إهمالا لهم، ويكون ذلك من باب الالتفات.
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ مستأنفة مسوقة لبيان قبائح جهلة اليهود أثر بيان شنائع الطوائف السالفة، وقيل: عطف على قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ وعليه الجمع، وقيل: على وَإِذا لَقُوا واختار بعض المتأخرين أنه وهذا الذي عطف عليه اعتراض وقع في البين لبيان أصناف اليهود استطرادا لأولئك المحرفين، و «الأميون» جمع- أمي-