للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذكر الأيدي تأكيدا لدفع توهم المجاز، ويقال: أول من كتب بالقلم إدريس، وقيل: آدم عليهما السلام، والمراد ب الْكِتابَ المحرف، وقد روي أنهم كتبوا في التوراة ما يدل على خلاف صورة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وبثوها في سفهائهم وفي العرب وأخفوا تلك النسخ التي كانت عندهم بغير تبديل وصاروا إذا سئلوا عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقولون: ما هذا هو الموصوف عندنا في التوراة ويخرجون التوراة المبدلة ويقرؤونها ويقولون: هذه التوراة التي أنزلت من عند الله، ويحتمل أن يكون المراد به ما كتبوه من التأويلات الزائغة وروّجوه على العامة، وقد قال بعض العلماء: ما انفك كتاب منزل من السماء من تضمن ذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولكن بإشارة لا يعرفها إلا العالمون، ولو كان متجليا للعوام لما عوتب علماؤهم في كتمانه، ثم ازداد ذلك غموضا بنقله من لسان إلى لسان، وقد وجد في التوراة ألفاظ إذا اعتبرتها وجدتها دالة على صحة نبوته عليه الصلاة والسلام بتعريض هو عند الراسخين جلي، وعند العامة خفي، فعمد إلى ذلك أحبار من اليهود فأوّلوه، وكتبوا تأويلاتهم المحرفة بأيديهم ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إعظاما لشأنه وتمكينا له في قلوب أتباعهم الأميين، وثُمَّ للتراخي الرتبي، فإن نسبة المحرف والتأويل الزائغ إلى الله سبحانه صريحا أشد شناعة من نفس التحريف والتأويل، والإشارة إما إلى الجميع، أو إلى الخصوص.

لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي ليحصلوا- بما أشاروا إليه- غرضا من أغراض الدنيا الدنيئة، وهو- وإن جل- أقل قليل بالنسبة إلى ما استوجبوه من العذاب الدائم، وحرموه من الثواب المقيم، وهو علة للقول- كما في البحر- ولا أرى في الآية دليلا على المنع من أخذ الأجرة على كتابة المصاحف، ولا على كراهية بيعها، والأعمش تأول الآية واستدل بها على الكراهة- وطرف المنصف أعمى عن ذلك- نعم ذهب إلى الكراهة جمع «منهم» ابن عمر رضي الله تعالى عنهما- وبه قال بعض الأئمة- لكن لا أظنهم يستدلون بهذه الآية، وتمام البحث في محله.

فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ- الفاء- لتفصيل ما أجمل في قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ إلخ، حيث يدل على ثبوت الويل للموصوفين بما ذكر لأجل اتصافهم به بناء على التعليق بالوصف من غير دلالة على أن ثبوته لأجل مجموع ما ذكر أولا- بل كل واحد- فبين ذلك بقوله: (ويل لهم) إلخ مع ما فيه من التنصيص بالعلة، ولا يخفى ما في هذا الإجمال والتفصيل من المبالغة في الوعيد الزجر والتهويل.

و (من) تعليلية متعلقة ب وَيْلٌ أو بالاستقرار في الخبر، وما قيل: موصولة اسمية، والعائد محذوف، أي «كتبته» وقيل: مصدرية «والأول» أدخل في الزجر عن تعاطي المحرف «والثاني» في الزجر عن التحريف و (ما) الثانية مثلها، ورجح بعضهم المصدرية في الموضعين- لفظا ومعنى- لعدم تقدير العائد، ولأن مكسوب العبد حقيقة فعله الذي يعاقب عليه ويثاب، وذكر بعض المحققين أن التحقيق أن العبد كما يعاقب على نفس فعله، يعاقب على أثر فعله لإفضائه إلى حرام آخر- وهو هنا يفضي إلى إضلال الغير وأكل الحرام- وغاير بين الآيتين بأنه بين «في الأولى» استحقاقهم العقاب بنفس الفعل «وفي الثانية» استحقاقهم له بأثره، ولذا جاء- بالفاء- ولا يخفى أنه كلام خال عن التحقيق- كما لا يخفى على أرباب التدقيق- ومما ذكرنا ظهر فائدة ذكر- الويل- ثلاث مرات، وقيل: فائدته أن اليهود جنوا ثلاث جنايات. تغيير صفة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، والافتراء على الله تعالى، وأخذ الرشوة.

فهددوا بكل جناية- بالويل- وكأنه جعل محط الفائدة في قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ إلى آخر المعطوف كما

في خبر «لا يؤمّن الرجل قوما فيخص نفسه بالدعاء»

وهو- على بعده- لا يظهر عليه وجه إيراد- الفاء- في الثاني، ثم الظاهر أن مفعول الكسب خاص- وهو ما دل عليه سياق الآية- وقيل: المراد ب مِمَّا يَكْسِبُونَ جميع الأعمال السيئة ليشمل القول- ولا يخفى بعده- وعدم التعرض للقول لما أنه من مبادئ ترويج مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ والآية نزلت في

<<  <  ج: ص:  >  >>