للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويفهم منه أن ما يرده الدليل الشرعي أو العقلي لا يقبل وهو الذي إليه أذهب وبه أقول، وأسأل الله تعالى أن يوفقني وإياك لكل ما هو مرضي لديه سبحانه ومقبول، والتنوين في قوله تعالى: رَحْمَةً للتفخيم وكذا في قوله سبحانه: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً أي علما لا يكتنه كنهه ولا يقادر قدره وهو علم الغيوب وأسرار العلوم الخفية، وذكر لَدُنَّا قيل لأن العلم من أخص صفاته تعالى الذاتية وقد قالوا: إن القدرة لا تتعلق بشيء ما لم تتعلق الإرادة وهي لا تتعلق ما لم يتعلق العلم فالشيء يعلم أولا فيراد فتتعلق به القدرة فيوجد.

وذكر أنه يفهم من فحوى مِنْ لَدُنَّا أو من تقديمه على عِلْماً اختصاص ذلك بالله تعالى كأنه قيل علما يختص بنا ولا يعلم إلا بتوقيفنا، وفي اختيار عَلَّمْناهُ على آتيناه من الإشارة إلى تعظيم أمر هذا العلم ما فيه، وهذا التعليم يحتمل أن يكون بواسطة الوحي المسموع بلسان الملك وهو القسم الأول من أقسام الوحي الظاهري كما وقع لنبينا صلّى الله عليه وسلّم في أخباره عن الغيب الذي أوحاه الله تعالى إليه في القرآن الكريم، وأن يكون بواسطة الوحي الحاصل بإشارة الملك من غير بيان بالكلام وهو القسم الثاني من ذلك ويسمى بالنفث كما

في حديث إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها

فاتقوا الله تعالى واجملوا في الطلب والإلهام على ما يشير إليه بعض عبارات القوم من هذا النوع، ويثبتون له ملكا يسمونه ملك الإلهام، ويكون للأنبياء عليهم السّلام ولغيرهم بالإجماع، ولهم في الوقوف على المغيبات طرق تتشعب من تزكية الباطن.

والآية عندهم أصل في إثبات العلم اللدني، وشاع إطلاق علم الحقيقة والعلم الباطن عليه ولم يرتض بعضهم هذا الإطلاق، قال العارف بالله تعالى الشيخ عبد الوهاب الشعراني عليه الرحمة في كتابة المسمى بالدرر المنثورة في بيان زبد العلوم المشهورة ما لفظه: وأما زبدة علم التصوف الذي وضع القوم فيه رسائلهم فهو نتيجة العمل بالكتاب والسنة فمن عمل بما علم تكلم بما تكلموا وصار جميع ما قالوه بعض ما عنده لأنه كلما ترقى العبد في باب الأدب مع الله تعالى دق كلامه على الافهام، حتى قال بعضهم لشيخه: إن كلام أخي فلان يدق على فهمه فقال: لأن لك قميصين وله قميص واحد فهو أعلى مرتبة منك، وهذا هو الذي دعا الفقهاء ونحوهم من أهل الحجاب إلى تسمية علم الصوفية بالعلم الباطن وليس ذلك بباطن إذ الباطن إنما هو علم الله تعالى وأما جميع ما علمه الخلق على اختلاف طبقاتهم فهو من العلم الظاهر لأنه ظهر للخلق فاعلم ذلك انتهى.

والحق أن إطلاق العلم الباطن اصطلاحا على ما وقفوا عليه صحيح ولا مشاحة في الاصطلاح، ووجهه أنه غير ظاهر على أكثر الناس ويتوقف حصوله على القوة القدسية دون المقدمات الفكرية وإن كان كل علم يتصف بكونه باطنا وكونه ظاهرا بالنسبة للجاهل به والعالم به، وهذا كإطلاق العلم الغريب على علم الأوفاق والطلسمات والجفر وذلك لقلة وجوده والعارفين به فاعرف ذلك. وزعم بعضهم أن أحكام العلم الباطن وعلم الحقيقة مخالفة لأحكام الظاهر وعلم الشريعة وهو زعم باطل عاطل وخيال فاسد كاسد، وسيأتي إن شاء الله تعالى نقل نصوص القوم فيما يرده وأنه لا مستند لهم في قصة موسى والخضر عليهما السّلام.

وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو «لدنا» بتخفيف النون وهي إحدى اللغات في لدن قالَ لَهُ مُوسى استئناف مبني على سؤال نشأ من السياق كأنه قيل فما جرى بينهما من الكلام؟ فقيل: قال له موسى عليه السّلام هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ استئذان منه عليه السّلام في اتباعه له بشرط التعليم، ويفهم ذلك من عَلى فقد قال الأصوليون: إن على قد تستعمل في معنى يفهم منه كون ما بعدها شرطا لما قبلها كقوله تعالى: يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ [الممتحنة: ١٢] أي بشرط عدم الإشراك، وكونها للشرط بمنزلة الحقيقة عند الفقهاء كما في التلويح لأنها في أصل الوضع للإلزام والجزاء لازم للشرط، ويلوح بهذا أيضا كلام الفناري في بدائع الأصول وهو ظاهر في أنها ليست حقيقة

<<  <  ج: ص:  >  >>