للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العقل السليم ثُمَّ هَدى إلى طريق الانتفاع والارتفاق بما أعطاه وعرفه كيف يتوصل إلى بقائه وكماله إما اختيارا كما في الحيوانات أو طبعا كما في الجمادات والقوى الطبيعية النباتية والحيوانية.

ولما كان الخلق الذي هو تركيب الأجزاء وتسوية الأجسام متقدما على الهداية التي هي عبارة عن إبداع القوى المحركة والمدركة في تلك الأجساد وسط بينهما كلمة التراخي انتهى، ولا يخفى عليك أن الخلق لغة أعم مما ذكره وأن القوى المحركة والمدركة داخلة في عموم كُلَّ شَيْءٍ سواء كان عموم الأفراد أو عموم الأنواع وأنه لا بد من ارتكاب نوع من المجاز في هَدى على تفسيره، وقيل: على التفسير المروي عن ابن عباس ومن معه ثم هداه إلى الاجتماع بإلفه والمناكحة، وقيل غير ذلك، ولله تعالى در هذا الجواب ما أخضره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الانصاف وكان طالبا للحق، ومن هنا قيل: كان من الظاهر أن يقول عليه السّلام: ربنا رب العالمين لكن سلك طريق الإرشاد والأسلوب الحكيم وأشار إلى حدوث الموجودات بأسرها واحتياجها إليه سبحانه واختلاف مراتبها وأنه تعالى هو القادر الحكيم الغني المنعم على الإطلاق.

واستدل بالآية على أن فرعون كان عارفا بالله تعالى إلا أنه كان معاندا لأن جملة الصلة لا بد أن تكون معلومة ومتى كانت هذه الجملة معلومة له كان عارفا به سبحانه، وهذا مذهب البعض فيه عليه اللعنة، واستدلوا له أيضا بقوله تعالى: لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الإسراء: ١٠٢] وقوله تعالى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل: ١٤] وقوله تعالى في سورة [القصص: ٣٩] وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ فإنه ليس فيه إلا إنكار المعاد دون المبدأ وقوله تعالى في الشعراء: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشعراء: ٢٣- ٢٧] إلى قوله سبحانه إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ فإنه عنى به أني أطلب منه شرح الماهية وهو يشرح الوجود فدل على أنه معترف بأصل الوجود وبأن ملكه لم يتجاوز القبط ولم يبلغ الشام ألا ترى أن موسى عليه السّلام لما هرب إلى مدين قال له شعيب: لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص: ٢٥] فكيف يعتقد أنه إله العالم وبأنه كان عاقلا ضرورة أنه كان مكلفا وكل عاقل يعلم بالضرورة أنه وجد بعد العدم، ومن كان كذلك افتقر إلى مدبر فيكون قائلا بالمدبر وبأنه سأل هاهنا بمن طالبا للكيفية، وفي الشعراء بما طالبا للماهية.

والظاهر أن السؤال بمن سابق فكأن موسى عليه السّلام لما أقام الدلالة على الوجود ترك المنازعة معه في هذا المقام لعلمه بظهوره وشرع في مقام أصعب لأن العلم بماهيته تعالى غير حاصلة للبشر. ولا يخفى ما في هذه الأدلة من القيل والقال، ومن الناس من قال: إنه كان جاهلا بالله تعالى بعد اتفاقهم على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق السموات والأرض وما فيهما واختلفوا في كيفية جهله فيحتمل أنه كان دهريا نافيا للصانع أصلا ولعله كان يقول بعدم احتياج الممكن في وجوده إلى مؤثر وإن وجود العالم اتفاقي كما نقل عن ديمقراطيس وأتباعه، ويحتمل أنه كان فلسفيا قائلا بالعلة الموجبة، ويحتمل أنه كان من عبدة الكواكب. ويحتمل أنه كان من عبدة الأصنام، ويحتمل أنه كان من الحلولية المجسمة وأما ادعاؤه الربوبية لنفسه فبمعنى أنه يجب على من تحت يده طاعته والانقياد له وعدم الاشتغال بطاعة غيره، واستدل بشروعه في المناظرة وطلب الحجة دون السفاهة والشغب مع كونه جبارا شديد البطش على أن الشغب والسفاهة مع من يدعو إلى الحق في غاية القبح فلا ينبغي لمن يدعي الإسلام والعلم أن يرتضي لنفسه ما لم يرتضه فرعون لنفسه. وباشتغال موسى عليه السّلام بإقامة الدليل على المطلوب على فساد التقليد في أمثال هذا المطلب وفساد قول القائل: إن معرفة الله تعالى تستفاد من قول الرسول، وبحكاية كلام فرعون وجواب موسى عليه السّلام على أنه يجوز حكاية كلام المبطل مقرونا بالجواب لئلا يبقى الشك، وعلى أن المحق يجب عليه استماع

<<  <  ج: ص:  >  >>