للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شبهة المبطل حتى يمكنه الاشتغال بحلها قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى لما شاهد اللعين ما نظمه عليه السّلام في سلك الجواب من البرهان النير على الطراز الرائع خاف أن يظهر للناس حقية مقالاته عليه السّلام وبطلان خرافات نفسه ظهورا بينا أراد أن يصرفه عليه السّلام عن سننه إلى ما لا يعنيه من الأمور التي لا تعلق لها في نفس الأمر بالرسالة من الحكايات موهما أن لها تعلقا بذلك ويشغله عما هو بصدده عسى يظهر فيه نوع غفلة فيتسلق بذلك إلى أن يدعي بين يدي قومه نوع معرفة، فقال فَما بالُ إلخ. وأصل البال الفكر يقال: خطر ببالي كذا ثم أطلق على الحال التي يعتني بها وهو المراد، ولا يثنى ولا يجمع إلا شذوذا في قولهم بآلات. وكأن الفاء لتفريع ما بعدها على دعوى الرسالة أي إذا كنت رسولا فأخبرني ما حال القرون الماضية والأمم الخالية، وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة.

قالَ موسى عليه السّلام عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أي إن ذلك من الغيوب التي لا يعلمها إلا الله تعالى وإنما أنا عبد لا أعلم منها إلا ما علمنيه من الأمور المتعلقة بالرسالة والعلم بأحوال القرون وما جرى عليهم على التفصيل مما لا ملابسة فيه بمنصب الرسالة كما زعمت. وقيل: إنما سأله عن ذلك ليختبر أنه نبي أو هو من جملة القصاص الذين دارسوا قصص الأمم السالفة، وقال النقاش: إن اللعين لما سمع وعظ مؤمن آل فرعون يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ [غافر: ٣٠] الآية سأل عن ذلك فرد عليه السّلام علمه إلى الله تعالى لأنه لم يكن نزلت عليه التوراة فإنه كان نزولها بعد هلاك فرعون.

وقال بعضهم: إن السؤال مبني على قوله عليه السّلام وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى إلخ أي فما حال القرون السالفة بعد موتهم من السعادة والشقاوة والمراد بيان ذلك تفصيلا كأنه قيل: إذا كان الأمر كما ذكرت ففصل لنا حال من مضى من السعادة والشقاوة ولذا رد عليه السّلام العلم إلى الله عز وجل فاندفع ما قيل: إنه لو كان المسئول عنه ما ذكر من السعادة والشقاوة لأجيب ببيان أن من اتبع الهدى منهم فقد سلم ومن تولى فقد عذب حسبما نطق به قوله تعالى وَالسَّلامُ إلخ، وقيل: إنه متعلق بقوله سبحانه إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا إلخ أي إذا كان الأمر كذلك فما بال القرون الأولى كذبوا ثم ما عذبوا، وقيل: هو متعلق به والسؤال عن البعث والضمير في عِلْمُها للقيامة وكلا القولين كما ترى وعود الضمير على القيامة أدهى من أمر التعلق وأمرّ.

وقيل: إنه متعلق بجواب موسى عليه السّلام اعتراضا على ما تضمنه من علمه تعالى بتفاصيل الأشياء وجزئياتها المستتبع إحاطة قدرته جل وعلا بالأشياء كلها كأنه قيل: إذا كان علم الله تعالى كما أشرت فما تقول في القرون الخالية مع كثرتهم وتمادي مدتهم وتباعد أطرافهم كيف إحاطة علمه تعالى بهم وبأجزائهم وأحوالهم فأجاب بأن علمه تعالى محيط بذلك كله إلى آخر ما قص الله تعالى، وتخصيص القرون الأولى على هذا بالذكر مع أولوية التعميم قيل لعلم فرعون ببعضها وبذلك يتمكن من معرفة صدق موسى عليه السّلام: إن بين أحوالها، وقيل: إنه لإلزام موسى عليه السّلام وتبكيته عند قومه في أسرع وقت لزعمه أنه لو عمم ربما اشتغل موسى عليه السّلام بتفصيل علمه تعالى بالموجودات المحسوسة الظاهرة فتطول المدة ولا يتمشى ما أراده، وأيّا ما كان يسقط ما قيل: إنه يأبى هذا الوجه تخصيص القرون الأولى من بين الكائنات فإنه لو أخذها بجملتها كان أظهر وأقوى في تمشي ما أراد، نعم بعد هذا الوجه مما لا ينبغي أن ينكر، وقيل: إنه اعتراض عليه بوجه آخر كأنه قيل: إذا كان ما ذكرت من دليل إثبات المبدأ في هذه الغاية من الظهور فما بال القرون الأولى نسوه سبحانه ولم يؤمنوا به تعالى فلو كانت الدلالة واضحة وجب عليهم أن لا يكونوا غافلين عنها ومآله على ما قال الإمام معارضة الحجة بالتقليد، وقريب منه ما يقال إنه متعلق بقوله «ثم هدى» على التفسير الأول كأنه قيل: إذا كان الأمر كذلك فما بال القرون الأولى لم يستدلوا بذلك فلم يؤمنوا. وحاصل

<<  <  ج: ص:  >  >>