بنات الله، وأعيد تمهيدا لما يعقبه، وهو مبني على أن الجن والملك جنس واحد مخلوقون من عنصر واحد وهو النار لكن من كان من كثيفها الدخاني فهو شيطان وهو شرذ وتمرد ومن كان من صافي نورها فهو ملك وهو خير كله، ووجه التسمية بالجن الاستتار عن عيوننا فالجن والجنة بمعنى مفعول من جنه إذا ستره، ويكون على هذا تخصيص الجن بأحد نوعيه تخصيصا طارئا كتخصيص الدابة، وعلى الأصل جاء ما هنا، ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن نوعا من الملائكة عليهم السلام يسمى الجن ومنهم إبليس وعبر عن الملائكة بالجنة حطالهم مع عظم شأنهم في أنفسهم أن يبلغوا منزلة المناسبة التي أضافوها إليهم في قولهم ذلك، وقد يقال: إن الاستتار كالداعي لهم إلى ذلك الزعم الباطل بناء على توهمهم بأنه إنما يليق بالإناث فقالوا: لو لم يكونوا بناته سبحانه وتعالى لما سترهم عن العيون فلذا عبر عنهم بالجنة وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي والله لقد علمت الشياطين أي جنسهم أن الله تعالى يحضرهم ولا بد النار ويعذبهم بها ولو كانوا مناسبين له تعالى أو شركاء في استحقاق العبادة أو التصرف لما عذبهم سبحانه فضمير إِنَّهُمْ للجنة على ما عدا الوجه الأخير من الأوجه السابقة وأما عليه فهو للكفرة أي والله لقد علمت الملائكة الذين جعلوا بينه تعالى وبينهم نسبا وقالوا هم بناته أن الكفرة لمحضرون النار معذبون بها لكذبهم وافترائهم في قولهم ذلك، والمراد به المبالغة في التكذيب ببيان أن الذين يدعى لهم هؤلاء تلك النسبة ويعلمون أنهم علم منهم بحقيقة الحال يكذبونهم في ذلك ويحكمون بأنهم معذبون لأجله حكما مؤكدا، ويجوز على الأوجه الأول عود الضمير على الكفرة أيضا والمعنى على نحو ما ذكر، وعلم الملائكة أن الكفرة معذبون ظاهر، وعلم الشياطين بأنهم أنفسهم وكذا سائر الكفرة معذبون لما أن الله عز وجل توعد إبليس عليه اللعنة بما يدل على ذلك.
وقوله سبحانه سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ على جميع الأوجه السابقة تنزيه من جهته تعالى لنفسه عن الوصف الذي لا يليق به، وقوله تعالى: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ استثناء منقطع من المحضرين وما بينهما اعتراض أي ولكن المخلصون ناجون، وجوز كونه استثناء متصلا منه ويفسر ضمير إِنَّهُمْ بما يعم وهو خلاف الظاهر.
وجوز كونه استثناء منقطعا من ضمير يَصِفُونَ وكونه استثناء متصلا منه وهو خلاف الظاهر أيضا.
وجوز كونه استثناء من ضمير جَعَلُوا على الانقطاع لا غير وما في البين اعتراض، واختار الواحدي الوجه الأول. قال الطيبي: ويحسن كل الحسن إذا فسر الجنة بالشياطين أي وضمير إِنَّهُمْ بالكفرة ليرجع معناه إلى قوله تعالى حكاية عن اللعين لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر: ٣٩، ٤٠، ص: ٨٢، ٨٣] أي إنهم لمحضرون النار ومعذبون حيث أطاعونا في اغوائنا إياهم لكن الذين أخلصوا الطاعة لله تعالى وطهروا قلوبهم من أرجاس الشرك وأنجاس الكفر والرذائل ما عمل فيهم كيدنا فلا يحضرون ويكون ذلك مدحا للمخلصين وتعريضا بالمشركين وإرغاما لأنوفهم ومزيدا لغيظهم أي إنهم بخلاف ما هم عليه من سفه الأحلام وجهل النفوس وركاكة العقول اه. وفي بيان المعنى نوع قصور، وقوله تعالى:
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ عود إلى خطابهم، والفاء في جواب شرط مقدر أي إذا علمتم هذا أو إذا كان المخلصون ناجين فَإِنَّكُمْ إلخ، والواو للعطف وَما تَعْبُدُونَ معطوف على الضمير في فَإِنَّكُمْ وضمير عَلَيْهِ لله عز وجل والجار متعلق بفاتنين وعدي بعلى لتضمنه معنى الاستيلاء وهو استعارة من قولهم فتن غلامه أو امرأته عليه إذا أفسده والباء زائدة وهو خبر ما، والجملة خبر إن والاستثناء مفرغ من مفعول فاتنين المقدر وأَنْتُمْ خطاب للكفرة ومعبوديهم على سبيل التغليب نحو أنت وزيد تخرجان أي ما أنتم