وَيُعَلِّمُهُ بالتعليم الإلهي الغني عما يعهد من الوسائط كتاب العلوم المعقولة وحكم الشرائع ومعارف الكتب الالهية من توراة الظاهر وإنجيل الباطن ويجعله رسولا إلى الروحانيين من بني إسرائيل الروح قائلا: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ من عالم الغيب بآية عظيمة وهي أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ بالتربية من طين النفوس البشرية كَهَيْئَةِ الطائر إلى جناب القدس بجناحي الرجاء والخوف فَأَنْفُخُ فِيهِ بنفث العلم الإلهي ونفس الحياة الحقيقة فَيَكُونُ طَيْراً أي نفسا حية طائرة في فضاء الجمال والجلال إلى رياض جناب الحق سبحانه بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ أي الأعمى المحجوب برؤية الأغيار عن رؤية نور الأنوار وَالْأَبْرَصَ المبتلى بأمراض الرذائل والعقائد الفاسدة التي أوجبت مخالفة لون بشرته الفطرية وَأُحْيِ موتى الجهل بحياة العلم الحقيقية بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ أي تتناولون من الشهوات واللذات وَما تَدَّخِرُونَ في بيوت نياتكم من الآمال التي هي كسراب بقيعة إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور لَآيَةً لَكُمْ نافعة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ توراة الظاهر فإنه أحد المظاهر وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ بسبب عنادكم وقصركم الحق على بعض مظاهره، وأشير بذلك إلى علم الباطن، والمراد من البعض إما الكل على حد ما قيل في قوله تعالى: يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر: ٢٨] وإما ظاهر معناه فيكون إشارة إلى أن من الباطن ما يحرم كشفه، فقد قال مولانا زين العابدين:
ورب جوهر علم لو أبوح به ... لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا
ولا استحل أناس مسلمون دمي ... يرون أقبح ما يأتونه حسنا
وقد تقدم في هذا أبو حسن ... إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا
وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ بعد أخرى مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفتي وَأَطِيعُونِ فيما فيه كمال نشأتكم إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فهو الذي يوصلكم إلى ما فيه كمالكم فَاعْبُدُوهُ بالذل والانكسار والوقوف على بابه بالعجز والافتقار وامتثلوا أمره ونهيه هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ يوصلكم إليه ويفد بكم عليه فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ شروع في بيان مآل أحواله عليه السلام، وقيل: يحتمل أن يكون كله من قبل الملائكة شرحا لطرف منها داخلا تحت القول، ويحتمل أن يكون الكلام قد تم عند قوله تعالى: وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ ولا يكون أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ إلخ متعلقا بما قبله، ولا يكون داخلا تحت القول ويكون المحذوف هناك فجاء عيسى كما بشر الله تعالى رسولا إلى بني إسرائيل- بأني قد جئتكم بآية من ربكم- الآية، والفاء هنا مفصحة بمثل المقدر هناك على التقدير الثاني، وأصل الاحساس الإدراك بإحدى الحواس الخمس الظاهرة وقد استعير هنا استعارة تبعية للعلم بلا شبهة، وقيل: إنه مجاز مرسل عن ذلك من باب ذكر الملزوم وإرادة اللازم والداعي لذلك أن الكفر مما لا يحس، والقول- بأن المراد إحساس آثار الكفر- ليس بشيء، والمراد من الكفر إصرارهم عليه وعتوهم فيه من العزيمة على إيقاع مكروه به عليه السلام، وقد صح أنه عليه السلام لقي من اليهود قاتلهم الله تعالى شدائد كثيرة.
أخرج إسحق بن بشر، وابن عساكر من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «كان اليهود يجتمعون على عيسى عليه السلام ويستهزئون به ويقولون له: يا عيسى ما أكل فلان البارحة وما ادخر في بيته لغد؟! فيخبرهم ويسخرون منه حتى طال ذلك به وبهم وكان عيسى عليه السلام ليس له قرار ولا موضع يعرف إنما هو سائح في الأرض فمر ذات يوم بامرأة قاعدة عند قبر وهي تبكي فسألها فقالت: ماتت ابنة لي لم يكن لي ولد غيرها فصلى عيسى ركعتين ثم نادى يا فلانة قومي بإذن الرحمن فاخرجي فتحرك القبر. ثم نادى الثانية فانصدع القبر. ثم نادى الثالثة فخرجت وهي تنقض رأسها من التراب فقالت: يا أماه ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين؟ يا أماه اصبري واحتسبي فلا