ويجوز أن يكون الكلام كناية عن نفي تحقق ذلك لأن نفي العلم من لوازم نفي التحقق إذ التحقق ملزوم علم الله تعالى، ونفي اللازم لازم نفي الملزوم وكثيرا ما يقال: ما علم الله تعالى في فلان خيرا ويراد ما فيه خير حتى يعلمه، وهل يجري ذلك في نفي علمنا أم لا؟ فيه تردد والذي قطع به صاحب الانتصاف الثاني، وإيثار الكناية على التصريح للمبالغة في تحقيق المعنى المراد- وهو عدم تحقق الجهاد الذي هو سبب للفوز الأعظم منهم- لما أن الكلام عليها كدعوى الشيء ببينة، وفي ذلك رمز أيضا إلى ترك الرياء، وأن المقصود علم الله تعالى لا الناس، وإنما وجه النفي إلى الموصوفين مع أن المنفي هو الوصف الذي هو الجهاد للمبالغة في بيان انتفاء ذلك، وعدم تحققه أصلا وكيف تحقق صفة بدون موصوف، وفي اختيار لَمَّا على لم إشارة إلى أن الجهاد متوقع منهم فيما يستقبل بناء على ما يفهم من كلام سيبويه أن لَمَّا تدل على توقع الفعل المنفي بها، وقد ذكر الزجاج أنه إذا قيل: قد فعل فلان فجوابه- لما يفعل، وإذا قيل: فعل؟ فجوابه لم يفعل، فإذا قيل: لقد فعل، فجوابه ما فعل كأنه قال: والله لقد فعل فقال المجيب:
والله ما فعل، وإذا قيل: هو يفعل يريد ما يستقبل، فجوابه لا يفعل، وإذا قيل: سيفعل، فجوابه لن يفعل، فقول أبي حيان:
إن القول بأن لَمَّا تدل على توقع الفعل المنفي بها فيما يستقبل لا أعلم أحدا من النحويين ذكره غير متعدّ به، نعم هذا التوقع هنا غير معتبر في تأكيد الإنكار، وقرئ «ويعلم» بفتح الميم على أن أصله يعلمن بنون خفيفة فحذفت في الدرج، وقد أجازوا حذفها إما بشرط ملاقاة ساكن بعدها أو مطلقا، ومن ذلك قوله:
إذا قلت قدني قال بالله حلفة ... لتغني عني ذا أنائك أجمعا
على رواية فتح اللام وقيل: إن فتح الميم لاتباع اللام ليبقى تفخيم اسم الله عز اسمه، ومِنْكُمْ حال من الَّذِينَ ومن فيه للتبعيض، فيؤذن بأن الجهاد فرض كفاية وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ نصب بإضمار إن، وقيل: بواو الصرف، والكلام على طرز- لا تأكل السمك وتشرب اللبن- أي أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد والصبر أي الجمع بينهما، وإيثار الصابرين على الذين صبروا للإيذان بأن المعتبر هو الاستمرار على الصبر وللمحافظة على رؤوس الآي، وقيل: الفعل مجزوم بالعطف على المجزوم قبله وحرك لالتقاء الساكنين بالفتحة للخفة والاتباع، ويؤيد ذلك قراءة الحسن وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ بكسر الميم، وقرئ «ويعلم» بالرفع على أن الواو للاستئناف أو للحال بتقدير وهو يعلم، وصاحب الحال الموصول كأنه قيل: ولما تجاهدوا وأنتم صابرون وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ خطاب لطائفة من المؤمنين لم يشهدوا غزوة بدر لعدم ظنهم الحرب حين خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إليها فلما وقع ما وقع ندموا فكانوا يقولون: ليتنا نقتل كما قتل أصحاب بدر ونستشهد كما استشهدوا فلما أشهدهم الله تعالى أحدا لم يلبث إلا من شاء الله تعالى منهم.
فالمراد بالموت هنا الموت في سبيل الله تعالى وهي الشهادة ولا بأس بتمنيها ولا يرد أن في تمني ذلك تمني غلبة الكفار لأن قصد المتمني الوصول إلى نيل كرامة الشهداء لا غير، ولا يذهب إلى ذلك وهمه كما أن من يشرب دواء النصراني مثلا يقصد الشفاء لا نفعه ولا ترويج صناعته، وقد وقع هذا التمني من عبد الله بن رواحة من كبار الصحابة ولم ينكر عليه، ويجوز أن يراد بالموت الحرب فإنها من أسبابه، وبه يشعر كلام الربيع وقتادة فحينئذ المتمني الحرب لا الموت مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ متعلق ب تَمَنَّوْنَ مبين لسبب إقدامهم على التمني أي من قبل أن تشاهدوا وتعرفوا هوله، وقرئ بضم اللام على حذف المضاف إليه ونية معناه وأن تلقوه حينئذ بدل من الموت بدل اشتمال أي كنتم تمنون الموت أن تلقوه من قبل ذلك، وقرئ:«تلاقوه» من المفاعلة التي تكون بين اثنين وما لقيك فقد لقيته، ويجوز أن يكون من باب سافرت والضمير عائد إلى الموت، وقيل: إلى العدو المفهوم من الكلام وليس بشيء فَقَدْ