وإضلالهم لا يخفى بعده لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا يظن به ذلك، وإنما يرد مثله في معرض الإلهاب والتعريض وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ بما فعل من الانقلاب لأنه تعالى لا تجوز عليه المضار شَيْئاً من الضرر وإن قل وإنما يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب أو بحرمانها مزيد الثواب، ويشير إلى ذلك توجه النفي إلى المفعول فإنه يفيد أنه يضر غير الله تعالى وليس إلا نفسه وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ أي سيثيب الثابتين على دين الإسلام، ووضع الشاكرين موضع الثابتين لأن الثبات عن ذلك ناشيء عن تيقن حقيته وذلك شكر له، وفيه إيماء إلى كفران المنقلبين، وإلى
تفسير الشاكرين بالثابتين ذهب علي كرم الله تعالى وجهه وقد رواه عنه ابن جرير،
وكان يقول:
الثابتون هم أبو بكر وأصحابه وأبو بكر رضي الله تعالى عنه أمير الشاكرين، وعن ابن عباس أن المراد بهم الطائعون من المهاجرين والأنصار، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار للإعلان بمزيد الاعتناء بشأن جزائهم واتصال هذا بما قبله اتصال الوعد بالوعيد.
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ استئناف سيق للحض على الجهاد واللوم على تركه خشية القتل مع قطع عذر المنهزمين خشية ذلك بالكلية. ويجوز أن يكون تسلية عما لحق الناس بموت النبي صلّى الله عليه وسلم وإشارة إلى أنه عليه السلام كغيره لا يموت إلا بإذن الله تعالى فلا عذر لأحد بترك دينه بعد موته.
والمراد بالنفس الجنس وتخصيصها بالنبي عليه الصلاة والسلام كما روي عن ابن إسحاق ليس بشيء، والموت هنا أعم من الموت حتف الأنف، والموت بالقتل كما سنحققه، وكانَ ناقصة اسمها أَنْ تَمُوتَ لِنَفْسٍ متعلق بمحذوف وقع خبرا لها، والاستثناء مفرغ من أعم الأسباب.
وذهب أبو البقاء إلى أن بإذن الله خبر كانَ ولِنَفْسٍ متعلق بها واللام للتبيين، ونقل عن بعضهم أن الجار متعلق بمحذوف تقديره الموت لنفس، وأَنْ تَمُوتَ تبيين للمحذوف، وحكي عن الزجاج وبعض عن الأخفش أن التقدير- وما كان نفس لتموت- ثم قدمت اللام وكل هذه الأقوال أوهن من الوهن لا سيما الأخير، والمعنى ما كان الموت حاصلا لنفس من النفوس مطلقا بسبب من الأسباب إلا بمشيئة الله تعالى وتيسيره. والإذن- مجاز عن ذلك لكونه من لوازمه، وظاهر التركيب يدل على أن الموت من الأفعال التي يقدم عليها اختيارا فقد شاع استعمال ما كان لزيد أن يفعل كذا فيما إذا كان ذلك الفعل اختياريا لكن الظاهر هنا متروك بأن يجعل ذلك من باب التمثيل بأن صور الموت بالنسبة إلى النفوس بصورة الفعل الاختياري الذي لا يقدم عليه إلا بالإذن.
والمراد عدم القدرة عليه أو بتنزيل إقدام النفوس على مبادئه كالقتال مثلا منزلة الإقدام عليه نفسه للمبالغة في تحقيق المرام فإن موتها لما استحال وقوعه عند إقدامها عليه أو على مبادئه وسعيها في إيقاعه فلأن يستحيل عند عدم ذلك أولى وأظهر، ويجوز على هذا أن يبقى الأذن على حقيقته ومفعوله مقدر للعلم به، والمراد بإذنه تعالى إذنه لملك الموت فإنه الذي يقبض روح كل ذي روح بشرا كان أولا شهيدا كان أو غير شهيد برا أو بحرا حتى قيل: إنه يقبض روح نفسه، واستثنى بعضهم أرواح شهداء البحر فإن الله تعالى هو الذي يقبضها بلا واسطة واستدل بحديث جويبر- وهو ضعيف جدا- وفيه من طريق الضحاك انقطاع، وذهب المعتزلة إلى أن ملك الموت إنما يقبض أرواح الثقلين دون غيرهم، وقال بعض المبتدعة: إنه يقبض الجميع سوى أرواح البهائم فإن أعوانه هم الذين يقبضونها ولا تعارض بين اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزمر: ٤٢] ويَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة: ١١] تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا [الأنعام:
٦١] لأن إسناد ذلك له تعالى بطريق الخلق والإيجاد الحقيقي، وإلى الملك لأنه المباشر له، وإلى الرسل لأنهم أعوانه المعالجون للنزع من العصب والعظم واللحم والعروق كِتاباً مصدر مؤكد لعامله المستفاد من الجملة السابقة