للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

باتجاهات القوم في النشر بوضوح، وتكشف عن أهدافهم بجلاء، فالتصوُّف والفلسفة وعلم الكلام (وهو الاتجاه الأول عندهم) ليعرفوا السلوك، والفكر، والعقيدة، ويا ويل من عرف عدوّه، سلوكه ونفسه، وحقائق فكره، ومناحي آرائه، ومكامن عقيدته، وخفايا قلبه.

فهذا الولوع العجيب الغريب بدراسة هذه العلوم، ونشر مؤلفاتها، لا تفسير له إلاَّ في ضوء أهدافهم، فهم يتعرَّفُون على هذا اللون من الفكر، ويتَّبعون شطحاته وانحرافاته، وكي تقعد بالناس عن الجهاد، بل عن العمل، أيَّ عمل، ويرون كيف يقوم لهم هذا - إذا رَوَّجُوهُ بمُهِمَّة الجيوش، إذ يشُلُّ حركة الأمة، ويُقعدها عن المقاومة ن بل يُزَيِّنُ لها الاستسلام.

ومن أراد دليلاً على ذلك، فلينظر في تاريخ الجزائر، ليرى كيف قاوم (الطُّرُقِيُّونَ) المتصوِّفُون حركة ابن باديس (الزعيم الروحي لحرب التحرير الجزائرية) وهي حركة دينية إسلامية واعية، داعية لحفظ الذات، وصيانة الهُوية، ثم إلى مقاومة الجادَّة الثابتة، والوقوف في وجه (فَرْنَسَةَ) الجزائر، ومسخها، وكيف كان لدراسات المُسْتَشْرِقِينَ، ومطبوعاتهم أثر في هذا التوجيه الاستعماري الخبيث (للطرقيِّين) واستخدامهم ضد المجاهدين والوطنيِّين، وقد أكد هذا المعنى أستاذنا الدكتور محمود قاسم (١٢) حين قال: « ... إنَّ الاستعمار الفرنسي للجزائر استطاع بجبروته وعَسَفه أنْ يفرض لغته على كثير من المُثقفين في الجزائر وشمال إفريقية، غير أنه لم يستطع أنْ ينال كثيراً من العقيدة الإسلامية، رغم ما بذله المُختَصُّون في شؤون الثقافة من محاولات لفصم العقلية الجزائرية، عن طريق تمجيد التصوُّف الكاذب، وإشاعة الخرافات والأباطيل، على نحو ما نراه


(١) العميد الأسبق لكلية دار العلوم. جامعة القاهرة، ولكلامه في هذه القضية وزنه وقيمته، فهو من القلائل الذين حصلوا على دكتوراه الدولة في الفلسفة من السوربون، وكان - رَحِمَهُ اللهُ - من ألمع الدارسين للفكر العالمي، ثم هو أيضاً عايش هؤلاء المُسْتَشْرِقِينَ وخَبِرَهُمْ عن قُرْبٍ.

<<  <   >  >>