ثم هو يتعامى أيضاً، عن ورع عبد الملك، وأمره لِلْحَجَّاجِ بالاقتداء بابن عمر، وعن طاعة الحَجَّاجِ واقتدائه بابن عمر، ولكنه لا يرى شيئاً من ذلك، حتى يؤكد ما قرره في أذهان تلاميذهم من مؤرِّخينا، عن ظلم بني أمية وفسادهم.
ونموذج ثالث لتحريف هذا المُسْتَشْرِقِ نفسه، في نفس المعنى، أعني اتِّهَامَ الزُّهُرِيِّ بالوضع - كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ - قال عن الزُّهُرِيِّ واستعداده لمسايرة الحُكَّامِ، ووضع ما يَرَوْنَ من أحاديث: «قد كانت تقواه تجعله يشك أحياناً، ولكنه لا يستطيع دائماً أنْ يتحاشى تأثير الدوائر الحُكومية، وقد حَدَّثَنَا معمر عن الزُّهُرِيِّ بكلمة مُهِمَّةٍ، وهي قوله: " أكرهنا هؤلاء الأمراء على أنْ نكتب (أحاديث) فهذا الخبر يُفْهِمُ استعدادَ الزُّهُرِيِّ أنْ يكسو رغبات الحكومة، باسمه المعترف به عند الأُمَّة الإسلامية».
ونلاحظ أنه في نفس الوقت يحاول أنْ يظهر بمظهر الحيدة العلميَّة، الخالية من الغرض، فلا يحرم
الزُّهُرِيَّ من وصف (التقوى) المعروف به، بل يُضفي على عبارته ما يجعلها أولى بالتصديق، فيجعل الزُّهُرِيَّ ذلك التقي الصالح، يستشعر الندم أحياناً، ويعترف بخطئه، ويبرر لنفسه ذلك بأنه واقع تحت الإكراه، من السلطة. وهكذا بهذا الملمس الناعم يسوق تريينه وتحريفه، وينفثه في خفة ومهارة.
وهو في كل ذلك يرتكز على ذلك النص المنقول عن (مَعْمَرْ) ليوهم القارئ بأنه يُوَثِّقُ ما يقول، ويملك دليلاً على ما يَدَّعِي.
وهذا النص الذي نقله فيه تحريف متعمَّد يقلب المعنى رأساً على عقب، وأصله كما عند ابن عساكر، وابن سعد: أنَّ الزُّهُرِيَّ كان يمتنع عن كتابة الأحاديث - كان يفعل ذلك ليعتمدوا على ذاكرتهم، ولا يَتَّكِلُوا على الكتب كما ذكرنا من قبل - فلما طلب منه هشام وَأَصَرَّ عليه أَنْ يُمْلِي على ولده ليمتحن حفظه كما تقدم، وأملى عليه أربعمائة حديث، خرج من عند هشام وقال بأعلى صوته: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا كُنَّا مَنَعْنَاكُمْ أَمْراً قَدْ بَذَلْنَاهُ الآنَ لِهَؤُلاَءِ، وَإِنَّ هَؤُلاَءِ الأُمَرَاءِ أَكْرَهُونَا عَلَى كِتَابَةِ (الأَحَادِيثِ) فَتَعَالَوْا