للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَعْرُوفٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَنِسْبَةُ الْفِعْلِ إِلَيْهِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَدْخَلًا فِي التَّفَرُّقِ، وَهُوَ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ وَتَرَاخِي الْمُدَّةِ بِزَوَالِ الْعِصْمَةِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَفَرُّقٌ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ طَلَاقٌ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالزَّوْجِ، وَلَا نَصِيبَ لِلْمَرْأَةِ فِي التَّفَرُّقِ الْقَوْلِيِّ، فَيُسْنَدُ إِلَيْهَا خِلَافًا لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ التَّفَرُّقَ هَاهُنَا هُوَ بِالْقَوْلِ وَهُوَ الطَّلَاقُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ أَفْلَحَ: وَإِنْ يَتَفَارَقَا بِأَلِفِ الْمُفَاعَلَةِ أَيْ: وَإِنْ يُفَارِقْ كُلٌّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ «١» وَقَوْلُ الْعَرَبِ: إِنْ لَمْ يَكُنْ وِفَاقٌ فَطَلَاقٌ. فَنَبَّهَ تَعَالَى عَلَى أَنَّ لَهُمَا أَنْ يَتَفَارَقَا، كَمَا أَنَّ لَهُمَا أَنْ يَصْطَلِحَا. وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْجَوَازِ قَالُوا: وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْغِنَى بِالْمَالِ.

وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِيمَا رَوَوْا طُلَقَةً ذُوَقَةً فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ الْغِنَى بِأَمْرَيْنِ فَقَالَ:

وَأَنْكِحُوا الْأَيامى «٢» الْآيَةَ، وَقَالَ: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ.

وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً نَاسَبَ ذَلِكَ ذِكْرَ السَّعَةِ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ مِنْ سِعَتِهِ. وَالْوَاسِعُ عَامٌّ فِي الْغِنَى وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَسَائِرِ الْكِمَالَاتِ. وَنَاسَبَ ذِكْرَ وَصْفِ الْحِكْمَةِ، وَهُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ مَوْضِعَ مَا يُنَاسِبُ، لِأَنَّ السَّعَةَ مَا لَمْ تَكُنْ مَعَهَا الْحِكْمَةُ كَانَتْ إِلَى فَسَادٍ أَقْرَبَ مِنْهَا لِلصَّلَاحِ قَالَهُ الرَّاغِبُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ فِيمَا حَكَمَ وَوَعَظَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: فِيمَا حَكَمَ عَلَى الزَّوْجِ مِنْ إِمْسَاكِهَا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: أَوْ حَيْثُ نُدِبَ إِلَى الْفُرْقَةِ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا، وَعَدَمِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا.

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى سَعَةَ رِزْقِهِ وَحِكْمَتَهُ، ذَكَرَ أَنَّ لَهُ مُلْكَ ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، فَلَا يَعْتَاضُّ عَلَيْهِ غِنَى أَحَدٍ، وَلَا التَّوْسِعَةُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَنْ لَهُ ذَلِكَ هُوَ الْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ.

وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَصَّيْنَا: أَمَرْنَا أَوْ عَهِدْنَا إِلَيْهِمْ وَإِلَيْكُمْ، وَمِنْ قَبْلِكُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بأوتوا وهو الأقرب، أو بوصينا.

وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالتَّقْوَى هِيَ سُنَّةُ اللَّهِ مَعَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فَلَسْتُمْ مَخْصُوصِينَ بهذه الوصية. وإياكم عَطْفٌ عَلَى الْمَوْصُولِ، وَتَقَدَّمَ الْمَوْصُولُ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ هِيَ السَّابِقَةُ عَلَى وَصَّيْنَا فَهُوَ تَقَدُّمٌ بِالزَّمَانِ. وَمِثْلُ هَذَا الْعَطْفِ أَعْنِي: عَطْفَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ الْمُنْفَصِلِ عَلَى الظَّاهِرِ فَصِيحٌ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالشِّعْرِ، وَقَدْ وَهَمَ فِي ذَلِكَ بعض


(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٢٩.
(٢) سورة النور: ٢٤/ ٣٢. [.....]

<<  <  ج: ص:  >  >>