للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِلَى ذَلِكَ الْإِكْرَامَ، وَفِي مُبَادَرَةِ فِرْعَوْنَ لَهُمْ بِالْوَعْدِ وَالتَّقْرِيبِ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى شِدَّةِ اضْطِرَارِهِ لَهُمْ وَإِنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّهُ عَاجِزٌ وَلِذَلِكَ احْتَاجَ إِلَى السَّحَرَةِ فِي دَفْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.

قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَخْيِيرُهُمْ إِيَّاهُ أَدَبٌ حَسَنٌ رَاعَوْهُ مَعَهُ كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الصِّنَاعَاتِ إِذَا الْتَقَوْا كَالْمُتَنَاظِرَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَتَخَاوَضُوا فِي الْجِدَالِ وَالْمُتَصَارِعَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذُوا فِي الصِّرَاعِ انْتَهَى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ تَأَدَّبُوا مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِمْ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ إِيمَانِهِمْ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ تَخْيِيرَهُمْ إِيَّاهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْأَدَبِ بَلْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِدْلَالِ لِمَا يَعْلَمُونَهُ مِنَ السِّحْرِ وَإِيهَامِ الْغَلَبَةِ وَالثِّقَةِ بِأَنْفُسِهِمْ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ وَالِابْتِهَالِ بِأَمْرِ مُوسَى كَمَا قَالَ الْفَرَّاءُ لِسِيبَوَيْهِ حِينَ جَمَعَ الرَّشِيدُ بَيْنَ سِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيِّ أَتَسْأَلُ فَأُجِيبُ أم أبتدىء وَتُجِيبُ فَهَذَا جَاءَ التَّخْيِيرُ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِدْلَالِ بِنَفْسِهِ وَالْمَلَاءَةِ بِمَا عِنْدَهُ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِمُنَاظَرَتِهِ وَالْوُثُوقِ بِأَنَّهُ هُوَ الْغَالِبُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَوْلُهُمْ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى رَغْبَتِهِمْ فِي أَنْ يُلْقُوا قَبْلَهُ مِنْ تَأْكِيدِ ضَمِيرِهِمُ الْمُتَّصِلِ بِالْمُنْفَصِلِ وَتَعْرِيفِ الْخَبَرِ وَإِقْحَامِ الْفَصْلِ انْتَهَى، وَأَجَازُوا فِي أَنْ تُلْقِيَ وَفِي أَنْ نَكُونَ النَّصْبَ أَيِ اخْتِرْ وَافْعَلْ إِمَّا إِلْقَاءَكَ وَإِمَّا إِلْقَاءَنَا وَالْمَعْنَى فِيهِ الْبُدَاءَةُ والدّفع أي إما إِلْقَاؤُكَ مَبْدُوءٌ بِهِ وَإِمَّا إِلْقَاؤُنَا فَيَكُونُ مُبْتَدَأً أَوْ إِمَّا أَمْرُكَ الْإِلْقَاءُ أَيِ الْبُدَاءَةُ بِهِ أَوْ إِمَّا أَمْرُنَا الْإِلْقَاءُ فَيَكُونُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَدَخَلَتْ أَنْ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ الْفِعْلُ وَحْدَهُ مَفْعُولًا وَلَا مُبْتَدَأً بِخِلَافِ قَوْلِهِ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ «١» فَالْفِعْلُ بَعْدَ إِمَّا هُنَا خَبَرٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِ وَآخَرُونَ أَوْ صِفَةٌ فَلَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ أَنْ وَمَفْعُولِ تُلْقِيَ مَحْذُوفٌ أَيْ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ عَصَاكَ وَكَذَلِكَ مَفْعُولُ الْمُلْقِينَ أي الملقين العصى وَالْحِبَالَ.

قالَ أَلْقُوا أَعْطَاهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ التَّقَدُّمَ وُثُوقًا بِالْحَقِّ وَعِلْمًا أَنَّهُ تَعَالَى يُبْطِلُهُ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ قالَ مُوسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ. «٢» قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

وَقَدْ سَوَّغَ لَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا تَرَاغَبُوا فِيهِ ازْدِرَاءً لِشَأْنِهِمْ وَثِقَةً بِمَا كَانَ بِصَدَدِهِ مِنَ التَّأْيِيدِ السَّمَاوِيِّ وَأَنَّ الْمُعْجِزَةَ لَمْ يَغْلِبْهَا سِحْرٌ أَبَدًا انْتَهَى وَالْمَعْنَى أَلْقُوا حِبَالَكُمْ وَعِصِيَّكُمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمَرَ بِالْإِلْقَاءِ. وَقِيلَ هُوَ تَهْدِيدٌ أَيْ فَسَتَرَوْنَ مَا حَلَّ بِكُمْ مِنَ الِافْتِضَاحِ.

فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ أَيْ أَرَوُا الْعُيُونَ بِالْحِيَلِ وَالتَّخَيُّلَاتِ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى «٣»


(١) سورة التوبة: ٩/ ١٠٦.
(٢) سورة يونس: ١٠/ ٨١.
(٣) سورة طه: ٢٠/ ٦٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>