للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من منافقة الملّتين المقرين بحشر الأجساد، تأول ذلك على تفهيم النعيم الذي في الجنة من الروحانيّ والسماع الطيب والروائح العطرة. كلّ ضال يحرف الكلم عن مواضعه إلى ما اعتقد ثبوته. وكان في هذا أيضا متبعا للمتشابه، إذ الأسماء تشبه الأسماء، والمسميات تشبه المسميات ولكن تخالفها أكثر مما تشابهها. فهؤلاء يتبعون هذا المتشابه ابتغاء الفتنة بما يوردونه من الشبهات على امتناع أن يكون في الجنة هذه الحقائق، وابتغاء تأويله ليردوه إلى المعهود الذي يعلمونه في الدنيا، قال الله تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، فإن تلك الحقائق قال الله فيها: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: ١٧] ، لا ملك مقرب ولا نبيّ مرسل.

وقوله: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ. إما أن يكون الضمير عائدا على الكتاب أو على المتشابه. فإن كان عائدا على الكتاب لقوله: منه، ومنه: فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، فهذا يصح. فإن جميع آيات الكتاب المحكمة والمتشابهة التي فيها إخبار عن الغيب الذي أمرنا أن نؤمن به، لا يعلم حقيقة ذلك الغيب ومتى يقع إلّا الله. وقد يستدل لهذا أن الله جعل التأويل للكتاب كله مع إخباره أنه مفصل بقوله: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ. فجعل التأويل الجائي الكتاب المفصل، وقد بينا أن ذلك التأويل لا يعلمه وقتا وقدرا ونوعا وحقيقة إلا الله. وإنا نعلم نحن بعض صفاته بمبلغ علمنا لعدم نظيره عندنا. وكذلك قوله: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ. وإذا كان التأويل الكتاب كله والمراد به ذلك، ارتفعت الشبهة، وصار هذا بمنزلة قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ، ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ- إلى قوله- إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف: ١٨٧] . وكذلك قوله: يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ، وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الأحزاب: ٦٣] . فأخبر أنه ليس علمها إلا عند الله، وإنما هو علم وقتها المعين وحقيقتها، وإلا فنحن قد علمنا من صفاتها ما أخبرنا به، فعلم تأويله كعلم الساعة والساعة من تأويله. وهذا واضح بيّن، ولا ينافي كون علم الساعة عند الله أن نعلم من صفاتها وأحوالها ما علمناه، وأن نفسر النصوص المبينة لأحوالها. فهذا هذا.

وإن كان الضمير عائدا إلى ما تشابه كما يقوله كثير من الناس، فلأن المخبر به من الوعد والوعيد متشابه، بخلاف الأمر والنهي. ولهذا في الآثار: العمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه. لأن المقصود في الخبر الإيمان. وذلك لأن المخبر به من الوعد

<<  <  ج: ص:  >  >>