العلوم والمواعظ، فلم يخشع قلب، ولم تجرِ دمعة، فضجَّ أهلُ المجلس بوالدي يسألونه أن يتكلَّم عليهم، فنزلتُ وصَعِدَ، وقال: كنتُ صائمًا أمسِ، وقَلَتْ لي أُم يحيى بويضات، وجعلَتْها في سكيريجة، فجاء السِّنَّور، فرمت بها، فانكسرت، فَضَجَّ أهلُ المجلس بالصُّراخ، فلمَّا نزل، قلتُ له في ذلك، فقال: يا بني، أنتَ مُدِلٌّ بسفرك، أسافرتَ إلى هنا؟ وأشار بأُصبعه إلى السَّماء، ثمَّ قال: يا بني، إنِّي لما صَعِدْتُ الكُرْسي تجلَّى الحقُّ ﷿ على قلبي وبسطني، فحدَّثتُ بما سَمِعْتُ، فكان الذي رأيت.
قال عبد الوهَّاب: وكنتُ بعد ذلك ربما أصعد الكرسي، وأتكلَّم على الناس بفنون العلوم ووالدي يسمع، فلا يتأثر أحد، ثمَّ أنزل ويصعد، فيقول بأوله: الشجاعة صَبْرُ ساعة. فيصيح أهل المجلس، فكنتُ أسأله عن ذلك، فيقول: أنتَ المتكلِّم، وأنا المتكلِّم فيَّ غيري. وكان إذا سُئِلَ مسألة في مجالس وعظه ربما يقول: أستأذِنُ في الكلام عليها. ويُطْرِقُ، فتجلِّلُه الهيبة، ويعلوه الوقار، ثمَّ يتكلَّم عليها بما شاء الله تعالى، وكان يقول: وعِزَّة العزيز ما تكلَّمْتُ حتى قيل لي تكلَّم، فقد أمكنتك من الرد يا عبد القادر، تكلَّم يسمعْ منك.
وقال أبو عمر وعثمان الصَّيريفيني وعبد الحق الحريمي: كان شيخنا محيي الدين عبد القادر ﵁ يبكي ويقول: يا رب كيف أهدي لك الروح، وقد صَحَّ بالبُرْهان أنَّ الكُلَّ لك.
ومما كان ينشد [من الطويل]:
وما ينفعُ الإعراب إذ لم يكن تُقىً … وما ضَرَّ ذا تقوى لسانٌ معجَّمُ
وقال عبد الوهَّاب بن سيِّدنا الشيخ محيي الدِّين ﵁: كان والدي يتكلَّم في الأُسبوع ثلاث مرَّات بالمدرسة بُكْرة الجُمُعة، وعَشِيَّة الثلاثاء، وبالرِّباط بكرة الأحد، وكان يحضره العُلَماء والفقهاء والمشايخ وغيرهم، ومدَّة كلامه على النَّاس أربعون سنة، أولها سنة إحدى وعشرين وخمس مئة، وآخرها سنة إحدى وستين وخمس مئة، ومدَّة تصدُّره للتدريس والفتوى بمدرسته ثلاث وثلاثون سنة، أولها سنة ثمان وعشرين وخمس مئة، وآخرها سنة إحدى وستين، وكان يقرأُ في مجلسه أخوان قراءةً مرسلة